من حسن حظ مروان، أنه لم يتمكن من سماع قول وزير الاقتصاد السوري، بأن "الوضع الاقتصادي يتحسن، لكن المواطن لم يشعر به بعد"، فالكهرباء انقطعت لأكثر من 20 ساعة متواصلة منذ تصريح الوزير، ما أغرق مروان في الظلام، وأجبره على الانفصال عن العالم.
في الحالة الطبيعية لا يتابع مروان الأخبار التفصيلية أو التصريحات الرسمية، لعدم امتلاكه الوقت الكافي منهمكاً بتأمين مستلزمات حياته من إيجار البيت وإعالة أسرته وإطعامها. وما يسمعه من أخبار يأتيه نتفاً من أحاديث زملائه وهم يسخرون من التصريحات الرسمية.
وبعيداً من غياب الكهرباء المتواصل عملياً، إلا أن مروان كان قد أدرك من حوارات الزملاء، أن التقنين "النظري" في الكهرباء ليس عادلاً، فبعض أحياء العاصمة دمشق تصلها الكهرباء بمعدل ثلاث ساعات لتنقطع ثلاثاً، فيما لا تتعدى حصة الحي الذي يطنه سوى ساعة واحدة تنقطع بعدها لخمس ساعات. ساعة واحدة من الكهرباء غالباً ما تكون أشبه بالبرق في الليل، مجرد التماعة عابرة يعقبها سواد حالك ومديد، وبعدها ليس عليه إلا التنقّل في البيت وهو يتحسس طريقه بيديه، محاذراً السقوط والارتطام بالأشياء.
تصريحات المسؤولين الرسمية تَعدُ بتحسين الوضع، فيقولون إن إيران تولت أمر الكهرباء السورية لذا "لا انقطاع بعد اليوم"، ويقولون إنهم اكتشفوا آبار غاز جديدة، وإن بواخر محملة بالفيول تكفي لكهرباء الشتاء قد وصلت، ويقولون أيضاً: "أخي المواطن لا تسرف في استهلاك الكهرباء". كيف يمكن لأحدهم أن يسرف في استهلاك شيء غير موجود أصلاً؟ تصكّ أسنان مروان من الغيظ، وهو يقول: "جيبوها بالأول".
ومروان يعيش مع زوجته وبناته الثلاث في غرفتين بائستين، وبالكاد يسد رمقه من راتب وظيفته في المطاحن العامة، بالإضافة إلى بعض المعونات الصغيرة والمتقطعة التي تأتيه من أخيه اللاجئ في ألمانيا، ومن بعض الأعمال الإضافية البسيطة التي يزاولها صيفاً في حال توافرت له الفرص المسائية. لذا، فلم يعد يطلب الكهرباء للتدفئة، ولا لمشاهدة التلفاز ولا للغسالة والبراد، وبات كل همّه محصوراً في الحصول على الإنارة فقط، خاصة بعدما تعطلت البطارية التي اشتراها قبل سنتين.
مروان كان قد اضطر للسكن في مخيم الوافدين لرخص إيجاراته، قياساً بالإيجارات الفلكية السائدة، ولقربه من عمله الكائن في مطاحن عدرا، وذلك بعدما دُمّر بيته في مخيم اليرموك. ومع أن حياته لم تكن سهلة في السنوات السابقة، لكنها لم تصل من قبل إلى هذا السوء، فقد بات عاجزاً عن شراء بطارية صغيرة للإنارة أثناء انقطاع الكهرباء، عدا عن عجزه في تأمين الكثير من الضروريات.
بالطبع، لم يستسلم مروان لعجزه، فشراء البطارية وتجهيز إنارة المنزل في مقدمة أولوياته، وقد وضع خططاً لها، وسينجزها حال وصول حوالة مالية من أخيه، أو حال حصوله على القرض الذي طلبه وبات قريباً من استلامه.
ومع ذلك، فقد اختلف مراراً مع زوجته كلما اقترحت عليه: "يمكننا أن نقتصد أو نستدين، لا بد من البطارية"، فيجيب غاضباً: "بماذا نقتصد؟ ألا ترين حال حذاء ابنتك المهترئ؟ ألا ترين كم تبقى علينا من دَين للبقال؟ وهل من اللائق أن نستدين لنشتري بطارية قبل أن نسدد لأختك ديونها؟ ألا تعرفين البئر وغطاءه؟".
ومنذ كسرت ابنته المصباح اليدوي الوحيد لديهم، قبل يومين، اتفق مع زوجته على وضع القداحة في مكان محدد للاستعانة بضوئها في حال الضرورة، لكنه عبثاً حاول إيجادها تلك الليلة في العتمة. وخلال عودته من الحمّام متحسساً طريقه بيديه، اصطدم بشيء ما وكتم أنينه، متوقعاً من زوجته أن تقول "أما آن أن نشتري البطارية؟" لكنها قالت: "هل آذيت نفسك؟"، فتابع طريقه ليندس بجوارها غارقاً في صمت عميق.
سمع صوت تنفسها المنتظم، وكأنه آتٍ من بئر عميق، وعبثاً حاول تحاشيه. لكن الصوت كان يلح عليه، كالمطرقة التي تضرب رأسه بقوة، ويُذكره بالألم الذي أصابها عندما تعثرت الليلة الماضية بعتبة الباب. الإحساس بالعجز والضعف بات ينهش روحه، لإنارة المنزل ليس إلا. شيء بسيط تجاوزته البشرية قبل آلاف السنين بسراج أو بشمعة، وها هو يعجز عن تأمين ذلك.
هي أيضاً تعرف أنه يحدق في السقف الذي لا يراه بسبب الظلام المطبق، وتعرف كم عانى في الأيام الماضية وهو يحمل جرة الغاز المرة تلو المرة ويمضي بها إلى المركز لينتظر ساعات قبل أن يعود خائباً، وكم استعطف أصدقاءه ومعارفه للحصول على جرة غاز. وفي النهاية لم يجد بديلاً عن شرائها بثلاثة أضعاف سعرها الرسمي، بعيداً من متاهة البطاقة "الذكية".
لا كهرباء ولا غاز، ولا مال. ومثل كل السوريين، يسمع مروان وزوجته، أخبار انهيار الليرة السورية، لكنهم يتلمسون غلاء الأسعار. كيف لا، وكل ما تبقى مع مروان، لا يكفي لشراء كيلو تفاح واحد بـ600 ليرة؟!
في تلك اليقظة اللعينة، في العتمة الدامسة، همس مروان: "بكرا بتكون البطارية عندك"، وقبل أن تسأله زوجته كيف سيتدبر أمره، قال بإشراق كأن الوحي قد نزل عليه: "لا تهكلي الهم.. راح أتصرف!".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها