يقول أحد المتقدمين للعمل في "شركة نور للتمويل الصغير ومتناهي الصغر" لـ"المدن"، إنه وبعدما استكمل طلباً الكترونياً للتوظيف، طُلب منه تزويد الشركة بحسابه الشخصي في "فيسبوك"، وتمت إضافة أحد الحسابات الخاصة بالشركة لقائمة أصدقائه.
"شركة نور" المملوكة بالكامل لرامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد وأغنى أغنياء سوريا، لم تبدأ العمل بعد رغم إعلان تأسيسها في آذار/مارس 2018، لكنها دخلت مؤخراً طور التوظيف. و"نور" من الشركات السورية "الخاصة" التي تعامل طالبي العمل بالعقلية الأمنية، وتريد التجسس على توجهاتهم الاجتماعية والسياسية، لتحافظ على بيئة عمل تشبه مثيلاتها في شركات رامي مخلوف الأخرى، من حيث الولاء المطلق للنظام.
وأسس مخلوف، "شركة نور للتمويل الصغير ومتناهي الصغر" برأسمال قدره مليار ليرة سورية (ما يعادل تقريباً 2.3 مليون دولار أميركي). وبحسب النظام الأساسي للشركة، فهي مكونة من شركة "راماك للمشاريع التنموية والإنسانية" بحصة 60 في المائة من رأس المال، و"جمعية البستان الخيرية" بحصة 30 في المائة، و"مؤسسة أمانة الشهيد الخيرية" بحصة 10 في المائة. وتعمل الشركة على تقديم القروض بضمانات شخصية، أو عينية، أو حتى من دون ضمانات. وستقبل الودائع بالعملة السورية، وتُقدّمُ خدمات التمويل الصغير، وإعادة التأمين.
وبما أن جميع أعمال الشركة محصورة داخل سوريا، ولن يكون لها أعمال خارجية، فإن رامي مخلوف لا يعير اهتماماً لأي من العقوبات المفروضة عليه وعلى الشركات التي يملكها، ولا يخاف من فرض عقوبات جديدة على الشركة من "مكتب مراقبة الأصول الأجنبية/أوفاك" ولا الاتحاد الأوروبي. وهو بذلك يوجه رسالة قوة إلى المجتمع الدولي الرافض للكيانات المالية التي يملكها، والتي تدعم حكومة النظام. "جمعية البستان"، المُساهمة في "نور"، تدير أحد أخطر المليشيات المسلحة في سوريا، وهي اليوم شريك في العمل المصرفي، رغم خضوعها للعقوبات الأميركية، مثل جميع الكيانات الخاصة بمخلوف.
إمكانية المواطن السوري للادخار في ظل حالة التضخم الكبيرة التي يشهدها الاقتصاد السوري، تظل محل تساؤل. إذ أن معظم سكان سوريا أصبحوا دون خط الفقر، ممن باتوا يستحقون إعانات مادية، في حين أن طبقة جديدة استطاعات تنويع مصادر دخلها خلال الحرب، قد تكون وحدها المؤهلة للادخار الصغير، والذي يبدأ عادة بمبالغ تصل إلى 5000 ليرة سورية. طبقة المتنفعين الصغار من الحرب يمكنها الادخار، وفق المعايير التي تطرحها شركات التمويل الصغير و"نور" على رأسهم.
ويعاني السوريون بشكل عام من مشكلة الحفاظ على مدخراتهم القليلة، ويستخدمون وسائل قديمة في سبيل ذلك. إذ يحتفظ معظم الناس بمدخراتهم معهم، أو يضعونها لدى شخص موثوق، أو يستثمرونها مع شخص أو شركة للكسب السريع تحت مسمى "التشغيل"، ما يجعلها عرضةً لمخاطر مالية عديدة قد تؤدي إلى فقدانها بالكامل.
وقد تزامن إطلاق إعلان "شركة نور للتمويل الصغير" في آذار/مارس 2018، مع إقرار وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك للنظام الأساسي لـ"مؤسسة ضمان مخاطر القروض" برأسمال 5 مليارات ليرة سورية، وهي المؤسسة التي ستعمل كـ"شركة كفالات" في لبنان، من حيث تقديم الضمانات اللازمة للحصول على القروض، خاصة قروض المشاريع الصغيرة والمتوسطة المتعلقة بالقطاع الصناعي "النسيج تحديداً". "ضمان مخاطر القروض" هي شركة مساهمة مغفلة، تساهم "الدولة" بجزء منها. وعندما تدرس "نور" ملفات الإقراض، ستطرح بعضها على شركة "ضمان المخاطر" لتقديم ضمانات لازمة لمنح القرض. وبالتالي من المفترض تسهيل إجراءات الحصول على ضمانات للقروض، وتوزيع المخاطر ما بين المصرف المانح و"شركة ضمان مخاطر القروض".
إذاً لا يريد رامي مخلوف أن يخاطر بأمواله حتى في ما يتعلق بتمويل الفقراء، بل على العكس. فتأسيس "نور" جاء في أجواء تبدو مهيئة بالكامل لأعمال التمويل الصغير. إذ يعود إصدار قانون "مؤسسة مخاطر القروض" للعام 2016، بعدما بدأت الدراسات بخصوصها منذ العام 2011، لكن إقرار نظامها الأساسي تأجل إلى العام 2018.
وفي تدقيق لأعمال "نور" حديثة العهد، نجد أنها ستبدأ تقديم جميع الخدمات المالية الخاصة بالتمويل الصغير دفعة واحدة، والتي عادة ما تُقدم على مراحل، متدرجة بحسب مخاطر التمويل المرتفعة. وهذا يدل على أن الشركة سارت بخطى واثقة من التشريع القانوني لـ"مؤسسة ضمان القروض" الذي قُدّم لـ"نور" لها على طبق من ذهب.
معظم شركات التمويل الصغير تعتمد على الإقراض المباشر لذوي الدخل المحدود، وأصحاب الحرف والمهن اليدوية، وغيرها من الشرائح ذات حجم الأعمال الصغير. أما موضوع الادخار فهو يحتاج لدرجة كبيرة من الوعي المالي، وهدفه حماية مدخرات الفقراء من الضياع، وتنظيم مصاريف الأسر التي لديها حيز صغير لكي تدخر.
الطابع الإنساني الذي يحاول فيه رامي مخلوف الظهور به لا يتناسب أبداً مع المشاريع التي يقوم بها، فهو يريد عبر "نور" الاستثمار في سوق الأوراق المالية للقطاع العام السوري، وهذا يعد من الأعمال الكبيرة التي لا تتوافق مع فكرة أعمال التمويل الصغير بالأساس.
وتستقطب شركات التمويل الصغير الودائع من المصارف الأخرى العاملة في سوريا، وتستخدمها في تمويل أعمالها، أو تجميدها كودائع الى حين انتهاء الغرض من تجميدها. ولا يُستبعد أن يستخدم رامي مخلوف "نور" لتوظيفات مالية تتعلق بأعماله الأخرى، وخاصة المصرفية والمالية. فعلى سبيل المثال أودع "مصرف سوريا والمهجر" مبلغ 250 مليون ليرة سورية لدى "مصرف الابداع متناهي الصغر" في العام 2016 كما ورد في ميزانيته المنشورة في كانون الأول/ديسمبر 2016. ثم تواردت معلومات عن زيادة هذه الوديعة إلى 500 مليون ليرة. ورئيس مجلس إدارة "بنك سوريا والمهجر" راتب الشلاح، هو والد عضو مجلس إدارة "مصرف الابداع متناهي الصغر" عمر الشلاح، وبالتالي يظهر هنا التداخل في المصالح ما بين العائلات والكيانات المالية، حتى ولو باسم مساعدة المحتاجين.
ومن المتوقع بحسب مصادر "المدن" أن تفتتح "نور" فروعاً كثيرة في سوريا، إسوة بآلية العمل المتبعة في التسويق للتمويل الصغير، كي تستهدف شريحة كبيرة من السوريين، خاصة من ذوي الدخل المحدود، وأصحاب المهن والحرف صغيرة الحجم. وبالتالي الحصول على أكبر كمية من مدخرات السوريين.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها