في ظروف ميدانية وسياسية بالغة التعقيد، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، قيام "دولة الخلافة الإسلامية". جاء ذلك على لسان الناطق باسمه "الشيخ أبو محمد العدناني"، الذي ظهر لأول مرة بالصوت والصورة، بوجه مموه، معلناً عن مبايعة أهل الحل والعقد للمجاهد "أبي بكر البغدادي" خليفةً للمسلمين. ويأتي ذلك في أعقاب اتساع مساحة سيطرة التنظيم في العراق، وخاصة في المناطق الحدودية مع سوريا، إلى جانب تقدمه في سوريا على حساب الكتائب المعارضة للنظام السوري وصولاً إلى أطراف مدينة الميادين، شرق مدينة دير الزور، وأيضاً بعد منعطفين ميدانيين هامين أولهما في البوكمال، على الحدود العراقية السورية، حين بايعت جبهة النصرة تنظيم الدولة وسلّمته المدينة، وثانيهما في غوطة دمشق الشرقية، حين اندلعت المعركة الأولى بين التنظيم وجيش الإسلام.
كان تنظيم "داعش" قد تمكن من السيطرة على مدينة "القائم" العراقية قرب مدينة "البوكمال" السورية مستغلاً المعارك التي يخوضها مسلحو العشائر وفصائل أخرى مع الجيش العراقي، وهو ما دفع فصيلاً من جبهة النصرة في البوكمال إلى إعلان مبايعته للتنظيم وبسط سيطرته باسم "داعش" على البوكمال يوم الأربعاء الماضي، إلا أن سائر الكتائب المقاتلة بما فيها بقية فصائل جبهة النصرة في البوكمال وريفها رفضت هذه البيعة، وتمكنت بعد معارك طاحنة من دحر عناصر تنظيم الدولة الإسلامية الجدد من أغلب أحياء المدينة، التي تحتل موقعاً استراتيجياً هاماً بالنسبة للطرفين في ظل النزاع الدائر على جانبي الحدود السورية العراقية.
من ناحية ثانية، كان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد أفاد باندلاع اشتباكات بين عناصر من جيش الإسلام التابع للجبهة الإسلامية وكتائب مقاتلة أخرى من جهة، وعناصر "داعش" من جهة ثانية، في مدينتي حمورية والمليحة في الغوطة الشرقية. وجاء ذلك بعد بيانات تضمنت اتهاماتٍ وتهديداتٍ متبادلة بين جيش الإسلام وتنظيم "داعش" انتهت إلى إعلان جيش الإسلام الحرب على هذا التنظيم في الغوطة، وترافق ذلك مع اغتيالات متبادلة وتفجير سيارة مفخخة في سوق شعبي بمدينة دوما، تشير كل الوقائع إلى أن تنظيم "داعش" هو المتهم الأول بتنفيذه.
وكانت المواجهات بين الجيش الحر والكتائب الاسلامية ضد داعش قد اندلعت مطلع العام الحالي، وأفضت إلى انسحاب التنظيم من جميع معاقله في إدلب وحلب وريفها الشمالي والغربي، وإحكام سيطرته على أجزاء من ريف حلب الشرقي ومعظم محافظة الرقة، وأجزاء واسعة من ريف دير الزور، وقد أفضت هذه الاشتباكات إلى مقتل سبعة آلاف شخص بينهم مئات المدنيين حسب إحصائية أعلنها المرصد السوري لحقوق الإنسان الأحد.
في هذا السياق، يأتي الإعلان عن دولة الخلافة ليدفع باتجاه تحديد التموضعات والاصطفافات النهائية في صراع "داعش" العسكري مع سائر الفصائل المسلحة المناوئة لنظام الأسد في سوريا، وباتجاه دفع سائر القوى المناوئة لحكومة المالكي في العراق إلى إعلان موقف حاسم من تنظيم الدولة الإسلامية، ذلك أنه "بإعلان الخلافة صار واجباً على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة البغدادي، وتبطل شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات التي يتمدد إليها سلطانه ويصلها جنده"، حسب ما جاء في إعلان "أبي محمد العدناني".
يضع إعلان الخلافة الإسلامية جميع فصائل السلفية الجهادية سواء تلك التابعة لتنظيم القاعدة أو غيرها على المحك، فهو يمثل تجسيداً واقعياً لتصوراتها النظرية حول شكل الحكم الذي تطمح إليه في نهاية المطاف، إلا أنه يصطدم بإدراك أغلب هذه الفصائل للظروف الواقعية التي لا تتيح تأسيس دولة كهذه اليوم، كما أن هذا الإعلان يربك سائر المرجعيات الدينية للسلفية، ويغرقها في تفاصيل فقهية لا أول لها ولا آخر.
تسعى قيادة تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى اقتناص لحظة تاريخية لن تتكرر لتنفيذ مشروعها، وإلى قطع الطريق على النقاشات الفقهية التي تدور بين مشايخ الجهاد منذ الخلاف الذي نشب بين البغدادي زعيم "داعش" والجولاني زعيم "النصرة"، المدعوم من قيادة تنظيم القاعدة متمثلة بالشيخ أيمن الظواهري، كما أنها تسعى إلى شق صفوف الكتائب التي تقاتلها بشراسة في سوريا وأغلبها ذات مرجعية إسلامية، وخاصة بعد أصبح وجودها المحدود أصلاً قرب دمشق في خطر داهم، وبعد أن تمت عرقلة مشروعها في تأمين اتصال مناطق سيطرتها في العراق بمناطق سيطرتها في سوريا على طول نهر الفرات جراء معارك "البوكمال" الضارية.
على المقلب الآخر يبدو إعلان الخلافة هذا فرصة تاريخية للمحور الذي تقوده إيران، كي يقدم نفسه وكيلاً وحيداً وحصرياً في عمليات مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، وربما تكون الفرصة الأخيرة لهذا المحور للحصول على تفويض ودعم دولي يخوله سحق جميع خصومه، بمن فيهم "دولة الخلافة الإسلامية" التي قد تكون في آخر قائمة هؤلاء الخصوم.
يبدو مبكراً توقع ما ستؤول إليه الأمور، إلا أن إعلان الخلافة الإسلامية يدفع الصراع في العراق وسوريا إلى أقصاه، إذ ستتواصل المعارك وتزداد شراستها بين مختلف الأطراف، وسيبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه للوصول إلى تحالفات وتفاهمات سرية وأخرى معلنة، ليبقى الثابت الوحيد في المعادلة أن المنطقة العربية، على الأقل، لا تزال مفتوحة على جميع الاحتمالات، التي يبدو أنه ليس من بينها انتصار قريب وناجز لأي طرف محلي أو إقليمي أو دولي.