منذ خرج آخر مسلحي الثورة من أحياء حمص القديمة بموجب الاتفاق الذي أبرم أوائل شهر أيار الماضي، بدأ إعلام النظام السوري وحلفائه الحديث عن انتصار "الدولة" في حمص، وعن عودة الهدوء والسلام إليها، وعن كونه انتصاراً ساحقاً للجيش العربي السوري سيشكل تحولاً حاسماً في مجريات الأحداث، في حين تحدثت أوساطٌ في المعارضة والثورة عن أن هذا الاتفاق مقدمة لتغيير هوية المدينة، ويشكل أولى الخطوات نحو تقسيم البلاد.
إذا كان إخلاء حمص القديمة من مسلحي الثورة السورية يشكل انتصاراً معنوياً هاماً للنظام السوري، فإن أحداث الأيام التي تلت تنفيذ هذا الاتفاق أظهرت أنه لم يغير كثيراً من المعادلات العسكرية على الأرض، كما أنه لم يؤدِ إلى عودة الأمان والهدوء والحياة الطبيعية إلى مدينة حمص ومحيطها، إذ استمر تفجير السيارات المفخخة في المدينة، كما تواصلت الاشتباكات في حي الوعر وأطراف ريف حمص الشمالي، وتقدمت كتائب المعارضة المسلحة على تلك الجبهة وسيطرت على مواقع جديدة.
في السادس والعشرين من شهر أيار وبعد بضعة أيام على استكمال تنفيذ بنود الاتفاق، وبعد ثلاثة أيام على توقيع اتفاقية وقف لإطلاق النار بين الثوار المتمركزين في حي الوعر بحمص والنظام السوري، انفجرت ثلاث سيارات مفخخة في مدينة حمص إحداها في حي الزهراء الذي تقطنه أغلبية من أبناء الطائفة العلوية، وأخرى على أول طريق حمص - طرطوس الدولي قرب قرية المزرعة، وثالثة على دوار الفاخورة في قلب المدينة، وأدت هذه الإنفجارات إلى مصرع العشرات، كما انفجرت سيارة مفخخة أخرى صباح السبت في حي وادي الذهب الموالي أسفرت عن عشرات الضحايا والمصابين المدنيين أيضاً، وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء هذه الإنفجارات الدامية التي تبنت جبهة النصرة عدداً منها، فإنها تؤشر إلى أن اتفاق حمص لم يجلب الأمان للمدينة، ولا لأنصار النظام السوري داخلها.
على جبهة حي الوعر الذي يتمركز فيه الآلاف من مسلحي الثورة ويقطنه عشرات آلاف المدنيين من سائر أحياء حمص تتواصل الاشتباكات بشكل متقطع على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي يتبادل الطرفان الاتهامات بخرقه، هذا الاتفاق الذي شمل فضلاً عن وقف إطلاق النار السماح بدخول مواد غذائية وإعادة التيار الكهربائي بالتوازي مع استمرار التفاوض بهدف إنجاز اتفاق شامل، وتتحدث الأنباء عن أن المفاوضات متواصلة بين لجنة تمثل الثوار والأهالي من جهة والنظام ممثلاً بالوسيط الإيراني من جهة أخرى، إلا أنها تصطدم بعبقات تتعلق بالجدول الزمني للتنفيذ، وبالبند الذي ينص على دخول الجيش النظامي وبقائه داخل الحي لفترة معينة بهدف تفتيشه وهو ما يبدو أن الثوار يرفضونه حتى اللحظة، وكذلك بالجهة التي ستراقب تنفيذ هذا الاتفاق، حيث تقترح المسودة التي قدمها النظام فتح مكتب دائم للوسيط الإيراني في الحي لمراقبة الخروقات، وهو ما لا يبدو ضمانة كافيةً بالنسبة للثوار والمدنيين في الوعر.
بالتوازي مع ذلك تواصلت الاشتباكات العنيفة على جبهة ريف حمص الشمالي، كما واصلت قوات النظام قصفها على بلدات تلبيسة والغنطو وغرناطة والرستن، في حين تقدمت كتائب الثوار وسيطرت على قرى وحواجز عسكرية شمال غرب تلبيسة أبرزها قرية أم شرشوح الإستراتيجية التي تقع على بعد 15 كلم شمال حمص و5 كلم شمال غرب تلبيسة، وهو ما يبدو محاولة من الكتائب لتدعيم جبهة حمص الشمالية استعداداً لخوض معارك أخرى في محيط حمص، حيث تشكل بلدة "الدار الكبيرة" التي تبعد 4 كلم عن مدينة حمص، والتي انتقل إليها ثوار حمص القديمة الخط المتقدم لهذه الجبهة، ونقطة الانطلاق الرئيسية لأي معارك محتملة على تخوم المدينة.
أما أحياء حمص القديمة فقد شهدت دخول آلاف المدنيين لتفقد بيوتهم وإخراج ما تبقى من أمتعتهم، وتشير جميع الشهادات التي أدلى بها هؤلاء المدنيون إلى استحالة الحياة في تلك الأحياء في الظروف الراهنة بسبب الدمار الواسع في الأبنية والبنية التحتية، وفيما عادت بعض العائلات للسكن في حي الحميدية المسيحي الذي يستعيد الحياة رويداً رويداً، ظلت جميع الأحياء الأخرى فارغةً من سكانها في ظل شائعات لم يتسن التأكد من صحتها عن تعرض بعض العائلات "السنية" التي حاولت الإقامة في بيوتها للتصفية أو الطرد، وهو ما يترك الباب مفتوحاً للتساؤل حول جدية نوايا النظام في تغيير هوية المدينة وتوطين سكان جدد من أبناء الطائفة الشيعية فيها وفق ما تقوله بعض أوساط الثورة والمعارضة، وهي التساؤلات التي قد يجيب على بعضها اتفاق حي الوعر في حال تم إبرامه، والذي يفترض أن يتضمن عودة عشرات الآلاف من أبناء حمص القديمة إلى إحيائهم.
تؤكد مجمل التطورات الميدانية والسياسية في حمص فشل المعارضة السورية في إدارة الصراع، وعدم قدرة الثورة على تحقيق إنجازات مهمة في ظل الأوضاع الراهنة، ولكنها تؤكد في الوقت نفسه أن تصريحات النظام السوري وحلفائه حول اقتراب الحسم انطلاقاً من اتفاق حمص القديمة مجرد لعبة إعلامية، وتؤكد أن أياً من معارك سورية ليست على وشك الحسم، وأن منطقة سوريا الوسطى وفي القلب منها حمص لا تزال ساحة معركة مفتوحة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث