بالمعنى الاجتماعي- السياسي، ﻻ سهولة في البحث عن تعريفٍ دقيق لتركيبة سوريا اليوم يمكن أن يحظى بإجماع السوريين، ليس فقط بسبب تباين اﻻنتماءات والميول السياسيّة، وانما أيضاً لعجز اللغة، في أغلب الأحيان، عن خلق رؤوس أقلام تقدّم، بإيجاز، أسس علاقة غالبية السوريين بسوريا كبلد، أو حتى علاقات السوريين الإنسانيّة فيما بينهم. قد يكون القول بأن سوريا اليوم هي تراكم لملايين القصص الشخصية والعائلية هو التعريف الأقل مجازفةً بنزاهته.
قصّة أحمد، بتفاصيلها الدراماتيكيّة، هي مثالٌ عن الوحدة الأساسيّة المكوّنة للسرديّة السوريّة "الوطنية".
سمعت عن أحمد عن طريق صديقٍ مشترك تعرّف عليه في السجن، وبفضل هذا الصديق لبّى أحمد طلب اللقاء الفضولي.
بعد أيام، وفي أحد أكثر الأحياء الشعبيّة اكتظاظاً بالسوريين في اسطنبول، وجدتُ أمامي شاباً طويل القامة، ذو شعرٍ طويل بما يكفي لكي يغطي انسداله عينيه. جلسنا في مطعمٍ سوري عُلّقت على بابه وجدرانه لافتات تحذّر بأن إدارة المطعم غير مسؤولة عن "أي اتفاقات تجارية أو مالية تحصل بين الزبائن”.
نظرتي المتسائلة يجيب عليها أحمد ورفيقنا: إنه إخلاء مسؤولية من التداولات واﻻتفاقات مع المهرّبين المتواجدين بكثرة في المنطقة، والذين وجدوا في السوريين الراغبين بعبور الحدود نحو أوروبا فرصة ازدهار ضخمة.
أحمد شاب من برزة الدمشقيّة، كان يدرس هندسة تصميم ميكانيكي في جامعة دمشق حين اعتُقل في نيسان عام 2012 بتهمة النشاط في ـ"تنسيقيّة برزة".
بعد تنقّل مؤلم بين فروع الأمن والسجون دام أكثر من ثمانية أشهر، أُفرج عنه في كانون الثاني 2013 ضمن صفقة التبادل الشهيرة مع الإيرانيين.
حاول أحمد العودة لحياته ودراسته الجامعية، لكن تعقّد الأمور في برزة، والتي بدأت تعاني أكثر فصول شراسة جيش النظام، دفعته لشدّ الرحال إلى مصر مدفوعاً بتواجد أقارب له هناك، وبأمل استعادة دراسته بفضل قوانين مساواة الطلاب السوريين بالمصريين السارية حينها.
تبخّر الحلم سريعاً بعد استيلاء الجيش المصري على الحكم وتدهور أوضاع اللاجئين السوريين هناك وتضاعف الحشد الإعلامي العنصري ضدّهم. أمام هذا الواقع الجديد، ومدفوعاً بنجاح بعض أقربائه قبله في المغامرة، وبالثقة بوسيطٍ برزاوي يعمل مع المهربين، قرر أحمد ركوب البحر نحو أوروبا.
بلغت تكلفة الرحلة المبدئية حوالي ثلاثة آلاف وخمسمئة دولار، لكن لم يكن يدور في ذهن أحمد أن هذا المبلغ، غير القليل إطلاقاً بالنسبة للظروف المعيشية القاسية، سيكون أرخص ما دفع حينها.
برفقة العشرات الآخرين من السوريين والفلسطينيين، نُقل أحمد بين عدّة شقق من قبل المهرّبين، ولعدّة أيام لم يكن معهم فيها بالكاد إﻻ ماء الشرب، قبل أن يقرر المهربون فجأةً أن الوقت قد حان للمحاولة، لكن القوى الأمنية المصرية كانت لهم بالمرصاد.
بدأت الملاحقة في عرض البحر، وانتهت بفتح الأمن المصري النار على جسم السفينة، وأدى اختراق بضعة رصاصات لجسم السفينة المتهالك إلى إصابة العديد من المهاجرين، توفي منهم اثنان على الأقل، شاب حمصي مقيم في حرستا وسيّدة فلسطينية- سوريّة، بسبب امتناع الأمن المصري عن التعجيل بطبابتهم.
نُقل أحمد برفقة الناجين، وعددهم 265 حسب محضر الشرطة، إلى شواطئ الاسكندريّة، ووُزعوا بعدها على أقسام شرطة وسجون عديدة كُدسوا فيها بطريقة منعدمة الإنسانيّة. تعرّضوا لسوء المعاملة وضعف التغذية والطبابة الشديدين، وسُحبت منهم أوراقهم الثبوتيّة، بما فيها وثائق اللجوء الصادرة عن الأمم المتحدة، لكنّ بعضهم، ومنهم أحمد، استطاعوا اﻻحتفاظ بهواتفهم الخلويّة.
بعد 22 يوماً من الاعتقال لدى قوى الأمن المصريّة، رُحّل أحمد طوعاً وعلى نفقة عائلته إلى تركيا، حيث يقيم اليوم في منزل في إحدى ضواحي اسطنبول الشماليّة، ويعمل أكثر من 12 ساعة في اليوم في ورشة خياطة ليعيل نفسه ويساعد عائلته بانتظار حلّ، أيّ حل.
هل يمكن أن يكون هذا الحل هو محاولة الدخول بشكل "غير شرعي" في أوروبا مجدداً؟ أسأله، فيجيبني بالإيجاب قبل أن يبدأ بتعداد طرق التهريب المتوفرة، ويشرح لي أن الكلفة المادية لأيّ منها تتجاوز مقدرته الحاليّة بكثير. ماذا تود أن تفعل الآن؟ أجاب أنه يريد أن يكمل دراسته الجامعية، وأنه مستعد للذهاب إلى أيّ بلدٍ يوفّر له هذه الإمكانيّة.
قبل الافتراق، والذي جاء أسرع مما كنت أتمنى بسبب ارتباط أحمد وصديقه بموعد لآخر وسيلة مواصلات تذهب لمنطقة سكنهم، سألت أحمد: بالمناسبة، كم عمرك؟ فأجابني بصوته الخافت، وكأنه يخجل من الإجابة: عشرون عاماً بالضبط. كان يجب أن أكون في بداية السنة الثالثة الآن، لكنني أضعت أكثر من سنتين حتى الآن.
بعدها ذهبت أنظاره نحو الأفق وكأنه يفكر كم سنة ستمضي فوق هاتين السنتين. شاركته التفكير الصامت هذا، ولكن أيضاً، فكرت أن هاتين العينين الحزينتين قد هرمتا أكثر من عمر صاحبهما بضعفٍ ونصف على الأقل. في سوريا، ملايين العيون الطفلة والشابة عمراً بلغت الشيخوخة التعسفيّة الحزينة، وهذا منطلق المأساة السوريّة الكبرى.