محنة الإرث المعماري لبيروت: الاضمحلال التدريجيّ لحقبةٍ ثقافية وإنسانيّة

بتول يزبك
الأربعاء   2024/02/28
انهيار منزل الرئيس شفيق الوزان (علي علّوش)

هل فعليًّا تستحق العاصمة بيروت استذكار وإحياء تراثها المعماري والثقافيّ والمديني؟ هل بيروت المدينة، جديرة بإعادة الإعمار والتّأهيل والترميم؟ هل هي أهل لأي جهد قد ينصب في سبيل حفظ الذاكرة العمرانيّة وهويتها الثقافيّة والفنيّة والجماليّة، كبادرة للحفاظ على خصوصيّة المدينة ومعنى الإقامة (عيش التجربة البيروتيّة) ونمط الحياة فيها؟ نذرٌ ضئيل من التفسيرات السوسيولوجيّة والسياسيّة والثقافيّة، المقنعة، هو المتاح أمام جيلنا، جيلٌ كامل من الشباب والشابات، المنوطة به مسؤولية هذه الذاكرة الجمعيّة والتراث الثقافيّ، للإجابة على هذه الأسئلة.

هذا الجيل الذي لم يرث سوى الكوارث والنوستالجيا البليدة لبيروت ما قبل العام 2005: المعجزة الجامحة، المدينة الكوزموبوليتانيّة، التّي مزقتها الميليشيات طوال خمسة عشر عامًا، لكنها نفضت عن جسدها الإسمنتيّ غبار الاحتراب، واندفعت نحو ورشة العمران والإعمار.. وبرجاء الناس الحميميّ، شُيدت المباني، إيمانًا بغدٍ أفضل، وبيقين أن المدن تُشيد باللحم والدم والأفكار لا بالإسمنت والحجارة وحسب. هذا الإيمان ما لبث أن تبدّد، مطلقًا المسار الجهنميّ لإضمحلال المدينة وما تختزله من معاني ماديّة ومعنويّة.

المباني المهددة بالانهيار
اليوم، يعود موضوع حماية وترميم الأبنيّة التّراثيّة وتأهيل المباني القديمة والرقابة على كافة أشكال العمران الحديث وتحديدًا العشوائي وغير المُرخص، إلى واجهة النقاشات العامة، متصدرًا الحدث اللّبنانيّ كمحنة مستجدّة، ذلك إثر الانهيارات المستمرة لعددٍ من المباني في منطقة الشويفات (العمروسيّة) آخرها وقع ضحيتها 4 أشخاص، وفي طرابلس، والعاصمة بيروت، حيث انهار فيها منذ أيامٍ قليلة منزل رئيس الحكومة السّابق شفيق الوزان، المتسم بطابعٍ تراثي، في منطقة البسطا التحتا.

أما مشاهد الانهيار، فقد أعادت إحياء ذكرى انهيار مبنى "فسوح" في الأشرفيّة (جرى تشييده عام 1976)، والذي سقط فيه 27 شخصًا، و12 جريحًا، مخلفًا "تروما" جماعية لدى سكّان المحلة، ومن استطاع النجاة من هذه الكارثة التّي كان سببها المباشر غياب الصيانة والتّأهيل للمبنى على مدى سنوات. فيما مثلت بالتّوازي دليلًا حسيًّا على أزمة الانهيار المزمن للتراث المبني والهشاشة السكّانية، المتناسلة منذ عقود، والتّي يغذيها إمعان السّلطات المولجة بإهمال هذا الشأن.

الهشاشة السكانيّة
والانهيارات المتواصلة للمباني السكنيّة في مناطق عدّة كان أبرزها المبنى السكنيّ في البسطا التحتا منذ أيام، والذي اضطر سكانه لمغادرته مؤقتًا ثمّ عادوا إليه بانتفاء إمكانيّة إيجاد مسكنٍ بديل، تعود لواقع ارتفاع نسبة العمران غير الرسميّ (العشوائي)، في المدن اللبنانيّة. وهو الحلّ المعقول والمتاح للفئات الأكثر هشاشة أو أصحاب المداخيل المحدودة الذي يتمثّل في اللجوء إلى السّكن في الأحياء غير الرسمية أو المباني غير المنظمة أو ما يُشاع تسميته "بالعشوائيات".

وإذ تُشير التقديرات إلى كون 15 في المئة من المساحة الإجمالية للأراضي اللبنانية فقط للمناطق المنظّمة والمؤهلة عمرانًا، فإن غالبية السّكان في لبنان وأصحاب الاستثمارات العقاريّة يعمدون لتشييد المباني بصورة غير منظمة، وبالتالي لا تستوفي المعايير الموضوعة للسلامة العامة، وباتت هذه الأبنية القديمة والمشيدة من دون تخطيط لمهندسين يشرفون على هيكلها الإنشائي وبناها التحتية منذ ما قبل ثمانينيات القرن الماضي بغالبيتها، عرضةً للتصدعات وآيلة للسقوط في معظم الأحيان، ومنتشرة بكثرة في مختلف المناطق اللبنانية.

تحذيرات مستمرة
وهذا الواقع، دفع بالخبراء والمهندسين واللجان العاملة بهذا الشأن، للتوجس من تفاقم هذا الوضع طرديًّا بالنظر إلى مدى تأثر العمران اللّبنانيّ القديم، بالظواهر البيئيّة المتطرفة والكوارث الطبيعيّة، آخرها الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا بداية العام الفائت (راجع "المدن"). وقُدرت المباني المُهددة بالانهيار مؤخرًا بين 16 ألفاً و18 ألف مبنى على امتداد الأراضي اللبنانيّة، وكانت الأعلى نسبة هي محافظة بيروت، التّي شهدت تفجير المرفأ في 4 آب الذي أدى إلى تدميرٍ شبه كليّ لشطر هائل من المباني التراثيّة (640 مبنى: 480 مبنى تراثي و160 مبنى ذات خصائص معماريّة مميّزة في المناطق المجاورة)، وتسبب بأضرار بعيدة الأمد للشطر الآخر.

وإلى جانب العوامل الطبيعيّة، تتضافر العوامل البشريّة الأخرى، في مفاقمة محنة العمران خصوصًا في بيروت، ولعلّ أبرزها الحروب والصراعات المسلّحة، التّي أدّت إلى تدمير جزء كبير من العمران التراثيّ، وأسهمت في الخلل الذي طرأ على العمران السكنيّ، وأعاق جهود الترميم والصيانة، التّي غابت بفعل ذلك، فترة طويلة. نتيجةً للقوانين التّي لم تلحظ التغيرات المستمرة في المجال العقاريّ، مما أدى إلى تراكم المشاكل الهيكليّة وعدم توافر الميزانيات للترميم الفنيّ والبنيويّ، هذا وناهيك عن التأخير القضائي في الملفات المتعلقة بالهدم والإسترداد بموجب قوانين الإيجارات القديمة، مضافًا إلى غياب الرقابة الرسميّة والتعديات العشوائيّة على الأملاك العامة، وخنق المساحات العموميّة لصالح الاستثمارات الخاصة.

يُذكر أن نقيب المهندسين، عارف ياسين، لفت في حديثه إلى "المدن" لواقع غياب إحصاء دقيق لوضع المباني في لبنان وأعداد المباني المهددة بصورة جديّة. وهذا ما ينطبق على المباني التراثيّة. مؤكدًا أن الخطر الحقيقي يكمن في البناء العشوائيّ والأبنيّة التّي لم تخضع لإشراف هندسي. مع الإصرار أن نقابة المهندسين لا تحل محل السلطات، والتقصير هو رسميّ، لكن آلاف الاختصاصيين في النقابة مستعدون لتقديم الاستشارة في سبيل النهوض بالعمران اللبنانيّ، وإخراجه من أزمته الحاليّة.

المباني التراثيّة والوعي العام
من جهته يُشير المهندس المعماريّ والناشط في حماية التراث العمرانيّ ومدير مدرسة العمارة في جامعة البلمند، عبد الحليم جبر، وعلى متن شرحه للمعايير المتبعة لتصنيف الأبنيّة ذات الطابع التراثي، إلى "المدن"، بالقول: "بدايةً هناك مشكلة، تقع في غياب جدول تصنيف للأبنيّة التراثية يُراعي فعليًّا التحولات التاريخيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للتصنيفات المتبعة". ولفت استنادًا إلى رأيه الشخصيّ، أن تصنيف التراث بحاجة حاليًّا إلى تحديث عما هو عليه في القانون اللّبنانيّ المُتبع منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتّالي يجعل من عمليّة حماية التراث المبني واقعيّة أكثر، معتبرًا أن التراث المعماري يرجع إلى كل ما هو قبل الحرب الأهليّة، وتحديدًا عام 1970 حين صدر قانون البناء الجديد، وتغيرت معه علاقة البناء والعمارة مع الشارع والنسيج الاجتماعيّ ومع الاقتصاد والثقافة. ولم يحظى باهتمام وافر في التسعينيات ومطلع الألفيّة الحاليّة، نظرًا لورشة الإعمار والفائض في البناء الجديد.

وأضاف جبر بالقول: "وسرعان ما انتبه اللبنانيون إلى كون هذا التراث معرض للاضمحلال والانتهاء وأن الحقبة الإنسانيّة هذه معرضة للمحو من دون رجعة، كلحظة تفجير المرفأ، أو بظروف أخرى. فإذا لاحظنا كميّة ومدى إصرار سكّان شارعي الجميزة ومار مخايل والكارنتينا وغيرها من المناطق، التّي تضررت مباشرةً من التفجير على البقاء والترميم، فإننا نستنتج أن علاقة السكّان بهذا التراث بوصفه تاريخًا شخصيًّا وعائليًّا وحقبة ينظر إليها الأفراد كغيارى على الهويّة، كان الدافع وراء الانهماك بحماية هذا التراث، وكان المحفز هو الوعيّ العام، الذي يغيب عن مناطق أخرى، لأسباب عدّة، مقرونة بنمط العيش، والمرتبة الاقتصاديّة والوضع الاجتماعيّ والثقافيّ".

"فإن وضعنا مباني الجميزة وأجزاء من الأشرفيّة والوسط التجاريّ، بموازاة مباني المصيطبة وزقاق البلاط والضاحيّة الجنوبيّة (التّي اختلف وضع العمران فيها بعد حرب تموز 2006)، فإننا حتمًا سنلحظ تفاوتًا في مدى الاهتمام العام، بحفظ التراث المبني، وخصوصًا لجهة الضغط السكّاني وما يتبعه، الذي يجعل من إمكانيّة إيلاء اهتمام بترميم المباني كماليّة أمام الحاجة لاستيعاب الكثافة السكانيّة"، يستطرد جبر.

المباني التراثيّة: التطوير العقاريّ البديل
ولدى سؤاله عن الأهميّة العمليّة لحماية هذا التراث المبني، بغض النظر عن القيمة الثقافيّة والمعنويّة، التّي يختزنها، أجاب جبر بالقول: "بالطبع، فالأهمية تختلف من مبنى لآخر ومن موقعٍ لآخر، لكن هناك جدوى اقتصاديّة اليوم من تأهيل هذه المباني، فبدايةً نحن في حالة حرب غير معلنة، وبأزمة اقتصاديّة فادحة ينوء بحملها السكان. فترميم المباني وصيانتها التراثيّة وغير التراثيّة، لها منفعة في حماية السكّان غير المتوافر لهم إمكانيّة العيش في أبنية فارهة أو حديثة تتوافر فيها مقومات الرفاهية، ومن جهةٍ أخرى، فإن نموذج الجميزة ومار مخايل، جعلا من نظرية التطوير العقاري البديل، نظرية رائجة، أسهمت في إعادة الحياة للشارعين المنكوبين، واجتذاب الحركات الثقافيّة والترفيهيّة والسّياحية وحتّى السكانية نحوهما"، مضيفًا: "التأهيل والترميم في ظلّ الواقع الذي نعيشه، له جدوى من حيث توفير الوقت والمال، وهذا ما صار جزءًا من الوعيّ العالميّ المُدرك لأهميّة الاستثمار في هذا النوع من العمران، عوضًا عن الهدم والبناء من جديد، المكلف وطويل الأمد".

ويؤكد نقيب المهندسين في هذا السّياق، قائلًا: "لا ننفي أن المباني التراثيّة بالفعل معرضة لخطر التضاؤل والتراجع وحتّى الزوال بفعل الجشع التجاري، الذي يرى البناء مصدر ربح من دون الالتفات لقيمة الأبنية الإنسانيّة وحيزها في ذاكرة المدينة، ونحن اليوم في صدد إطلاق مرصد دائم للقضايا العمرانيّة في نقابة المهندسين تهدف لرصد وإنشاء بنك معلومات عن الأبنيّة التراثيّة، والعمل على الحفاظ على النسيج العمراني والاجتماعي في المدن والقرى".