"ام هيثم" و"أبو حسن" يرويان بالمُعاش تاريخ النزوح وقهره

حسين سعد
الجمعة   2024/10/11
تتكرر مآسي نزوح الجنوبيين منذ 48 عاماً إلى اليوم (Getty)

يصاحب النزوح المتكرر كاملة وهبي ، منذ حوالي نصف قرن، حتى صار كظلها، كالكثيرين من أبناء الجنوب، الذين بلغ نزوحهم في العام 2024 ذروته، متخطياً كل المحطات السابقة، منذ اواخر ستينيات القرن الماضي.
مع بدايات السبعينيات، كانت بلدة عيناثا الحدودية، عرضة للإعتداءات الإسرائيلية، من قصف وعمليات كومندوس وغيرهما، فإختار المرحوم نمر وهبي النزوح قسراً عن بلدته، للنجاة بعائلته، رغم إنخراطه في ذلك الوقت في العمل الفدائي ضد إسرائيل .
بدات رحلة النزوح الأول لهذه العائلة، في العام 1976 إلى قانا، ثم عين بعال، قرب صور، وبعدها إلى بيروت .
في اوائل العام 1978، عادت العائلة من بيروت، إلى نزوح آخر جنوباً، فحطت رحالها في بلدة طيردبا الجنوبية .
إحدى بنات المرحوم نمر وهبي، كاملة، إقترنت بعد فترة وجيزة، من أحد ابناء هذه البلدة، حسن زيات، وتحولت مؤقتاً من نازحة إلى طيردبا، إلى زوجة. لكن النزوح رافقها مرة جديدة، عند الإجتياح الإسرائيلي إلى منطقة جنوب الليطاني في منتصف شهر آذار العام 1978،
"فتهجرت" إلى ضاحية بيروت الجنوبية، وتحديداً إلى منطقة الشياح، حيث كانت تنتظر مولودها الاول، فحملت في أحشائها الاثنين معاً، المعاناة، والطفل.
لم تدم رحلة النزوح، التي كان يطلق عليها غالبية الجنوبيين "التهجير" وقتاً طويلاً، فرجعت مع قوافل العائدين إلى بلدتها. وبعد مضي اربع سنوات، جاء الإجتياح الإسرائيلي للبنان في الخامس من حزيران العام 1982، حيث لم يجد أبناء الجنوب مناطق ينزحون إليها، لا سيما وان الغزو، قد وصل إلى بيروت، رئة اللبنانيين .
جاء في العام 1993 عدوان الأيام السبعة، نزحت "أم هيثم" مرة جديدة، مع عائلتها الجديدة والكبيرة، إلى الشياح، ولجات مع المئات، إلى إحدى المدارس في المنطقة، فكانت المعاناة مضاعفة، بسبب مفاعيل النزوح المتعددة، ومنها الإبتعاد عن منزل العائلة والأرض وما تبقى من أحبة.

النزوح الثالث إلى جون
خبرت أم هيثم، النزوح بعد تكراره، وأصبحت كغيرها من العائلات، التي "تلم" اولادها تحت جناحيها، تدرك اكثر فأكثر، غطرسة العدو الإسرائيلي، وبشاعة المجازر التي يرتكبها، إبتداء من مجازر دير ياسين وحولا وصبرا وشاتيلا. وعند بدء عدوان نيسان 1996، الذي شهد مجزرة العصر"قانا" طرقت هذه المرة أبواب بلدة جون في منطقة الشوف، وأعادت الكرة في العام 2006 واليوم في2024.

وجدت الحاجة كاملة واولادها وأحفادها الكثر وحتى أصهرتها، كل الدفء في بلدة جون، التي صارت تلجأ إليها عند أي عدوان إسرائيلي كبير على الجنوب .
في كل يوم يمر من تاريخ العدوان الموسع، الذي بدأ 23 ايلول، ترتجي كما كل العائلات النازحة المقهورة، ان يقترب إنتهاء العدوان الإسرائيلي، الذي أصاب بلدتيها ( عيناثا وطيردبا) ومئات المدن والبلدات والقرى في لبنان وأن يحمي الله زوجها، الذي بقي إلى جانب رزقه، أي"ماشيته".
تقول لـ "المدن" إن "شعور النزوح، لا يوازيه شيء، فهو أشبه بجحيم يطوق رقاب الجميع، لكن ما يعزينا ويخفف عنا، حسن الإستقبال والضيافة وصمود المقاومة".

أبو حسن وعذابات النزوح

تذوق أبو حسن ( محمد حيدر سعد) 81 عاماً، علقم النزوح، قبل 48 عاماً، وتحديداً في شهر آذار العام 1978، حين يمم وجهه شمالاً مع والده وشقيقه الحاج موسى وعدد من اولادهما، مصطحبين ماشيتهم وأبقارهم، من بلدتهم طيردبا- صور، فوصلت رحلتهم
إلى منطقة وادي الزينة في إقليم الخروب، بعد محطات عديدة في الصرفند وصيدا، قاطعين مسافة تزيد على الستين كيلومتراً.

يقول الحاح أبو حسن لـ "المدن" لقد "مررنا في هذه الرحلة، بظروف قاسية جداً، ليس أقلها البرد الشديد، وعدم وجود مأوى يخفف معاناتنا، إلى جانب الخسائر المادية التي تكبدناها وحلول الأمراض بأجسادنا .
وفي عدوان تموز 2006، نزح أبو حسن مع عائلته، إلى بلدة برجا الشوفية، وأمضى فيها أكثر من شهر.
اليوم يختبر أبو حسن المعاناة نفسها وقد نزح مرة أخرى مع عائلته وبعض اولاده وأحفاده، إلى منطقة جبيل، قبل أكثر من إسبوعين، مستعيداً كل مشاهد العذاب والقلق والخوف والتحدي .

بالنسبة إلى أبو حسن فإن النزوح، له صفة واحدة، وهي الإنسلاخ قسراً عن البيوت والأرزاق والأرض، التي يعرفها شبراً شبراً، ولا يوجد برأيه عبارات كافية لتوصيف النزوح. ومع ذلك، بالنسبة إليه، فإن "حمد الله، هو أفضل ما يقال في هذه الظروف الصعبة والقاسية".