"المدن" بعين الحلوة: الشيطان يرقص على صدر اللبناني والفلسطيني..

بتول يزبك
الإثنين   2023/09/18
ترقب لمعركة ثالثة، قد تكون أكثر دمويّة (علي علوش)

الرائحة النفاذة فقط. لا تتربص بك سوى تلك الرائحة النفاذة. مزيج من الصرف الصحيّ والبارود والقمامة ورائحة الأجساد المتسخة. أحياء برمتها لفّها الخراب. بيوت مهجورة إلا ما خلا بعضها من طيفٍ مدني أو عسكريّ. المخيم الذي كان يزدحم بالسّابلة والمحال التّجاريّة، والأعلام واليافطات، بات فقاعةً هائلة، يفور منها الغضب والوجوم. مخيم "عين الحلوة" يُشبه إلى حدٍّ بعيد رسمة قبيحة، ممزقة.

القدس وحلم العودة فوق، اليباب والميليشياويّة والسّلاح الدمويّ تحت، فيما يتوسطها ألوفٌ مؤلفة من سكان، معطوبي الجسد والذاكرة والتّاريخ.

تدخل صيدا، الكورنيش البحريّ القديم، مُزدحم بالأجساد المستلقيّة المغتبطة بنور الشمس، صيدا البحر، الكورنيش والمطاعم والعربات المتجولّة، قفطانٌ يستر المدينة المتجهمة والمتّوجسة والمنكوبة. العسكر في كل مكان، حتّى لو لم ترهم، لكنهم هناك موجودين، متأهبين عند الحواجز وفي الثكنات وبين الناس. صيدا تحولت إلى مدينة منتفخة بسكّانها، ثكنة عسكريّة ضخمة، دوريات تُسائل اللّبنانيّ والسّوريّ والفلسطينيّ على حدٍّ سواء. الكلّ متواطئ، لكن لا أحد يتحمل وزر ما حصل.

صيدا ومدارسها
عشرات المدارس ودور الإيواء المؤقتّة، تجمعها سمّة الهلهلة والنكبة، تجول داخلها لترى مئات الأطفال والشيوخ والنّساء والرّجال، الذي كان لهم أُسر وحياة خاصة قبل بضعة أسابيع، وها هم هنا بأجسادهم، لا بعقولهم، وهم مستلقون وفي وضح النهار على أسرتهم ومفارشهم الأرضيّة.

في جامع "الموصلي"، عند مدخل حي التّعمير، أول "عين الحلوة"، ما يربو عن 600 أُسرة، وُزعت في قاعات الجامع. الحاضرون يتقاسمون الحصّة الغذائيّة، التّي تأتيهم لمامًا (حسب قولهم). وجبة واحدة في اليوم، مئات النسوة والأطفال يتشاركن، حمامًا واحدًا وحسب. فيما أكبر مخاوفهن الانتقال نحو مركز "سبلين" التّابع للأونروا في الشوف اللّبنانيّ-شمالي صيدا، حيث الغرف مختلطة. فيما يُشير "أبو عمر" المسؤول عن الجامع وتنظيم الإيواء المؤقت إلى "المدن"، قائلاً: "نحن مضطرون لاتخاذ تدابير صعبة، لم نتلق أي دعم أو مساعدة من الجمعيات المعنيّة، وخصوصًا الأونروا، الطعام والأسرّة وحليب الأطفال، هم من الإحسان العام، المحليّ وحسب".

النساء يفترشن الأرض، بعضهن من الحوامل، أخريات كهول وعجائز، تتفاوت خلفياتهن، بين الحياديات و"الفتحاويات" و"الإسلاميات"، ولكناتهن بين الفلسطينية – السّوريّة، والفلسطينيّة – اللّبنانيّة، والفلسطينيّة – الفلسطينيّة. سألت "المدن" نذرًا يسيرًا منهن، عن همومهن وآمالهن، وعن مستقبل المخيم، (فعلاً ما هو مستقبل المخيم؟) ومصير هذه العائلات، هل سينزحن إلى مخيمٍ آخر، هل بات النازحون في صدّد إقامة "عين الحلوة 2.0". لا جواب. الأُسر منكوبة، والطموح الأكبر، وجبة الغذاء اليوميّة، والرحمة لأرواح القتلى من "الطرفين"، على قاعدة "هول شباب وهوليك شباب، والله يهدي بالهم". فيما رصدت "المدن" عدد من الجريحات اللواتي تعرضن لإصابات (أثناء فرارهن من المخيم) ناجمة عن الرصاص والشظايا التّي وصلت حتى إلى خارج المخيم.

يُذكر أن "المدن" حاولت الاستفسار من عددٍ من مسؤولي الأونروا، إلا أن الأخيرين، اعتذروا عن التّصريح، أو السّماح لـ"المدن" بالتّصوير أو الحصول على مقابلات رسميّة مع عددٍ من النازحين، المتواجدين في المدارس.

بين الاقتتال والاشتباك
غبار ومبان متصدعة، ومخلفات الرصاص والأسلحة، فضلاً عن ممتلكات البيوت المبعثرة من ألبسة ومؤن وأثاث. جالت "المدن" في "عين الحلوة"، المشهد أقلّ ما يُمكن وصفه بتحقق نبوءة تّوراتيّة رهيبة: في الأصل، كانت ميليشياويّة الفصائل، منذ البدايّة لم تكن سوى هذه الميليشياويّة، الجذع المهترئ الذي نمت منه النكبة المستمرة، الجهنميّة، وفي النهاية بقيت النكبة لتستهلك المنكوبين واحدًا، واحدًا". المخيم مسدودٌ من كافة الجهات، من المدخل "التحتاني" وداخل المخيم وسائر المنافذ، وحدات الجيش طوقت المخيم وحاصرت "المشتبكين" داخله، كل داخل يُسأل عن سبب دخوله، والتّضييق على الداخلين والخارجين. فيما يُمكن رصد حركة تجول خجولة، داخل المخيم، وتخوف مزمن من إطلاق النار بأي لحظة.

تحدثت "المدن" إلى عددٍ من مسؤوليّ الفصائل. ونقلًا عن مسؤولي فتح ومنظمة التّحرير (التّي لم تشارك بقية الفصائل، الشعبيّة والديمقراطيّة.. في الاشتباكات)، فإن المعركة أسفرت عن تدمير بيوت عدد كبير من "الفتحاويين" فيما لم تُصرح الفصائل الإسلاميّة (مجموعة هيثم الشعبي "جند الشام" والجند المسلم "بلال بدر")، عن أعداد القتّلى أو حجم الدمار، فيما يروج الحديث عن إمكانيّة تسليم مطلوبين للدولة اللّبنانيّة. وأكدّت المصادر التّي تواصلت معها "المدن" أن فتح عازمة على "إحباط مساعي الإسلاميين في السّيطرة على المخيم، والمؤامرة لإنهاء عاصمة الشتات الفلسطينيّ"، رافضين تسميّة الحاصل بالاقتتال، أي وكأنه فلسطينيّ - فلسطينيّ، "المشاركون في الفصائل الإسلاميّة بعضهم من اليمنيين واللّبنانيين والسّوريين، ويتمّ نقل أسلحة نوعية ومن العيار الثقيل ومقاتلين من خارج المخيم" على حسب ما أشار المصدر.

أما للتدقيق بأعداد القتلى من المدنيين والمقاتلين (والتّي لا يتوافر أي حصيلة دقيقة وموثوقة بجميع الأسماء، حسب الهلال الأحمر الفلسطينيّ) فعلمت "المدن" بوصول 30 جثّة إلى مشفى الهمشري ما بين عسكريّ (فتح) ومدني، للآن. وقد أشار عددٌ من الأهالي، أن القتلى قد دفنوا على عجالة، فيما لم يتمكن غالبيّة ذويهم من إقامة عزاء لهم.

"عين الحلوة": المستقبل المبهم
وفيما لا تزال عودة النازحين إلى بيوتهم، في حركة خجولة، ترجع بغالبيتها لشعور الأفراد بالفضول لمعرفة مصير بيوتهم وممتلكاتهم، ذلك على الرغم من مرور عدّة أيام على توقف إطلاق النار (فيما أكدّ شهود عيان لـ"المدن" أن أزيز رصاص سُمع صباح الأمس 18 أيلول الجاري)، فهناك ترقب لمعركة ثالثة، قد تكون أكثر دمويّة وحاسمة. فيما أعرب رهطٌ لا يُستهان به إلى "المدن" نيتهم بعدم الرجوع إلى المخيم إن لم تتدخل الأونروا في أعمال التّرميم وتعويض الخسائر، فيما آخرون رفضوا العودة حتّى تحقيق الشرط السّياسيّ الحاسم وإبعاد أي احتماليّة للاقتتال مُجدّدًا.

ويبدو أيضاً أن عددًا هائلاً قد حسم قراره بعدم العودة نهائيًّا إلى المخيم، حيث لجأ البعض من سكّانه إلى استئجار شقق في صيدا ومحيطها. وعليه، يبقى مصير المخيم وسكّانه وهويته وانتمائه، خارج حدود التّصور والتّوقع، ويتوقف على التّسويّة التّي ستغير مجريات الواقع الدمويّ الحاليّ.

القضية لم تكن هناك. جرحى الاشتباكات لم يكونوا فلسطينيين يحلمون بالعودة أو مشتاقون للقدس وقراهم ومدننهم. هؤلاء النازحون ليسوا مُهجري وجرحى وقتلى القضيّة، هؤلاء ضحايا التواطؤ الخبيث بين القوى السّياسيّة المتوالفة أو المتخاصمة، والنزوع الشيطانيّ لصون ميزان القوى الذي يؤمن لهم السّلطة والمنافع والنفوذ.

النازحون هؤلاء، كانوا مجموعة بشر، أمّة، طائفة، جماعة لاجئة، سمها ما شئت، مصابة بأكملها بمتلازمة ما بعد الصدمة، أو الصدمات. مجموعة حُكم عليها بالبؤس العرضيّ المزمن، باسم القضيّة الفلسطينيّة. أدلّة حسيّة وعيانيّة، للجريمة الأولى، أما المفارقة السّاخرة والقاسيّة أن أي قرار بحقّهم قادر على تدبير السّلم، أما صاحب القرار فلا يبدي أصلًا اهتمامًا بالسّلم، يريد أن يُبقي هؤلاء تحت متناول يديه، يقتلهم ويهجرهم ويستسيغ نكبتهم، لا لشيء سوى باسم القضيّة، الشيطان نفسه، الذي يرقص على صدر الفلسطينيّ واللّبنانيّ والسّوري.