مجتمع الميم-عين في لبنان: صراع قانوني لامتكافئ بمجلس النواب

بتول يزبك
الإثنين   2023/08/21
تظاهرة نظمتها "جمعية الدعاة" في طريق الجديدة في بيروت (Getty)

"القضية اللّبنانيّة" لا بمأزوميتها وحسب، بل ببُعدها التّاريخيّ، هي ليست بالمرتبة الأولى قضية نهب عام وتفقير وشقاق أهليّ وطائفيّ فقط، فكلّ هذه الكوارث والأزمات، تتحدر من أصلٍ واحد، وهو النظام السّياسيّ الموغل في المروق. "السيستم" الذاتيّ التّخريب، الفوضوي إلى درجة السّورياليّة.. هذا النظام السّياسيّ - المافيوي، المتذبذب بين قطبين متعاكسين، والذي وصل إلى ذروة الاستنزاف ماليًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، ليس بوارد إعلان موته النهائي، وعليه يسعى أقطابه لحقن "إبر الحياة" مستميتًا لتأجيل تفجر الذروة.

وعلى هذا المنوال، تُصبح أي حادثة أو قضية "جدليّة"، تصبّ مباشرةً في صالح هذه الغاية: فالّلون الزهريّ قد يرعب قاضيًّا ووزير ثقافة، ما قد يحثّه على التفلت من كل الأدبيات والأخلاق السّياسيّة ويتنصل من المبادئ الحقوقيّة التّي من المُفترض أن يحملها. أما العلاقات الإنسانيّة (الخارجة عن النمط السّائد) فقد تثير مخاوف زعيم حرب وهميّة، وتحثه بدورها على إعلان حربٍ جديدة ضدّ الإنسان وحرياته بناءً على قناعاتٍ شخصيّة مُلطخة بصبغةٍ دينيّة مشوهة، بل وتُجدّد الانقسامات بين الجماهير المُتوالفة، وتخلق التحالفات بين أطرافٍ متناحرة، كالكنيسة وحزب الله، على سبيل المثال.

الجدل السّياسيّ- القانونيّ
حتّى تاريخه، والجدالات المُتعلقة بقضية مجتمع "ميم -عين" في لبنان، لا تزال تتفاعل، فيما تشهد القضية تصاعدًا في المواجهات بين الأقطاب السّياسيّة وسط تدخلات دينيّة اتخذت منحًا مُتطرفاً ومبنياً على التّحريض والوعيد. وفيما اتخذت هذه المواجهات طورًا جديدًا، انفلت من السّياق السّياسيّ - الاجتماعيّ ليصير جدلاً قانونيًّا – تشريعيًّا. إذ تميل حاليًا الأطراف المتنازعة إلى اللجوء إلى إجراءات جديدة بطابعٍ قانونيّ (انكشفت مؤخرًا).

وتمّ رصد توقيع تسعة نواب من كتل نيابية مختلفة (عدد منهم من "التّغييرين") وذلك في تاريخ 12 تموز الماضي، على مقترح قانون يرمي لإلغاء "المادة 534" من قانون العقوبات. هذه المادة الفضفاضة، التّي تنصّ على محاسبة كل من أقدم على "مجامعة على خلاف الطبيعة" بالسجن لمدّة عام واحد، والتّي يفسرها بعض القضاة بناءً على الأسباب الموجبة لوضعها منذ 70 عامًا (1/3/1943). وبذلك يستندون عليها لمحاسبة مثليّ الميول وغيره. فيما اختلف قضاة آخرون على تفسيرها، معللين أن المثليّة هي نتاج الطبيعة وليست خلافها (راجع "المدن").

إلا أنه وبالرغم من ذلك، لا تزال هذه المادة تُستعمل كشماعة للانتهاكات التّي تمارس بحق مجتمع "الميم- عين" في لبنان، هادفةً لتضييق الخناق عليهم، وقمع أي محاولات حقوقيّة للنهوض بحقوقهم وتكريسها. ولمفاقمة هذه الإجراءات القمعيّة وسط الجدل المُستعر، تمّ تسريب مشروع قانون بعنوان "مناهضة الشذوذ الجنسيّ في لبنان"، وقد تمّ إعداده بواسطة مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير. وقد نشر هذا المشروع في 31 تموز، وتم تداول أخبار تشير إلى أن "كتلة الوفاء للمقاومة" التابعة لحزب الله تقف وراء هذا المشروع، وتنوي تقديمه في المجلس النيابيّ، الأمر الذي نفاه عددٌ من أعضاء الكتلة.

يعقوبيان: كرامة الإنسان
وبهذا السّياق تشرح النائبة في البرلمان اللبنانيّ بولا يعقوبيان لـ"المدن" التفاصيل المتعلقة بالمقترح آنف الذكر، الذي تقدمت به هي وثمانية نواب آخرون، قائلةً: "بدايةً أوّد التنويه إلى نقطة مفصليّة، مفادها أني كنت أنوي ومنذ عام 2018 التقدم بمثل هذا المقترح، لكن حينها دعتني عدة جمعيات حقوقيّة لتأجيل ذلك، خصوصاً أن القضاء اللبنانيّ نادرًا ما كان يُفسر هذه المادة بالطريقة التّي يجري تفسيرها مؤخرًا". وتضيف يعقوبيان: "اللافت أني وقعت على المقترح منذ نحو تسعة أشهر، لكن وفي خضم موجة التّحريض الأخيرة، ظهر الأمر، وأُقيمت حملة عليّ وعلى النواب المُشاركين من أشخاص يفتقدون لأدنى خُلقيات التحاور والسّياسة عمومًا، إلا أنني متمسكة بقناعتي ولو بقيت وحدي، لأن هذه القضية لا تتوقف على كونها قضية رأي عام، بل إنها مقرونة بمبدأ حقوقي، وهو كرامة الإنسان، وحقوق فئات لا تؤذي بغالبيتها أحد، يحاولون قمعها باسم الدين".

الجدل الشعبيّ والتجييش الشعبويّ
المقترحان، كان لهما تقريبًا الوطأة نفسها على الشارع اللبنانيّ، الذي استقبلهما بدوره بردود فعل متفاوتة، إذا أقدمت مجموعات من "المتدينين" والمتشددين على إقامة تظاهرات ووقفات احتجاجيّة في مناطق متنوعة، كتلك التّي نظمتها "جمعية الدعاة" في طريق الجديدة في بيروت، تحت عنوان "نعم لشرع الله ودينه لا للشذوذ الجنسي"، بمشاركة عدد من رجال الدين ورؤساء جمعيات وروابط وهيئات أهلية بيروتيّة اجتماعيّة وثقافّية وعشرات المواطنين.

فيما قامت الأطراف المستنكرة للسلوك العدائي مع الأقليات والفئات الجندريّة والجنسيّة المتنوعة، بإقامة حملات افتراضيّة للتصدي للهجوم والتجييش غير المسبوق، بل والسّخرية من تصريحات وزير الثقافة، القاضي محمد وسام مرتضى، الذي تناسى موقعه المهنيّ كقاضٍ وناطق باسم القانون والحقوق، لينجر وراء الخطاب العدائي والمتزمت، الذي بثّه ثنائي حزب الله وحركة أمل. الأمر الذي يترتب عليه محاسبة حقوقية -دوليّة، خصوصاً أن القاضي والوزير المرتهن لعقيدته السّياسيّة- الدينيّة، قد تناسى أن لبنان مُلزم بالاتفاقيات الدوليّة المُصادق عليها، والتّي تُجرم ما تبناه القاضي والوزير في خطابه، وتسميته الفئات الجندريّة ومتعددي الميول الجنسيّة بـ"الشواذ". ذلك حسب ما أشار عدد من النشطاء الحقوقيين لـ"المدن".

الأمر الذي أماط اللثام عن الصدام التّاريخي المتجدّد بين مجتمعي الطوائف وأحزاب السّلطة المتطرفة ذات الطابع العقائدي (والمنظومة السّياسيّة بسلطتها الأخلاقيّة) والآخر المتمرد على المنظومة. وهنا تُشير يعقوبيان إلى أن ضرورة المُقترح تكمن أساسًا في إزالة الالتباس المجتمعي والقانونيّ إزاء القضية، مستطردةً القول: "إفلاس السّلطة السّياسيّة هو أساس الجدّل الحاصل، هذا الجدل الذي انتقل إلى القضاء، وبحكم عدم تعويلي الكامل على القضاء وغالبية المجلس التّشريعي، فأرى أن إزالة الالتباس عن المادة التّي وضعت منذ 70 عامًا أجدى، ومهم حقوقيًا، كمشرعة مهنتي توضيح القانون بأكبر قدر ممكن".

أما عن الحملات التّي طالتها، فتشير يعقوبيان أن البلوى الحقيقيّة في كل ذلك تكمن في أن الشعب المرمي تحت نير التجييش والخواف والعصبيّة، هو نفسه ضحية هذا "السيستم" الذي يصف بعضهم بـ"الشواذ" فقط لاعتبارات ترتبط بالميول الجنسيّة والهويات الجندريّة، ويحاول بأكثر السّبل خباثة قمعهم اجتماعيًا وسياسيًا وحتّى قانونيًا فضلاً عن الدعوات لقتلهم، هو نفسه علّة نكبة مُجمل اللبنانيين واللبنانيات، هو نفسه منتهك حقوق النسوة في المحاكم الشرعيّة، والذي لم يحم الأطفال من جرائم "البيدوفيليا". فبدل التصويب على الفئات التّي لا تسبب الضرّر لأي شخص. فليتم التصويب على المنتهكين والمجرمين".

التّعويل على الخارج؟
وفيما لا تكمن المُشكلة بتخلف لبنان عن ركب الحداثة والتطور الحاصلين، وعلى كافة الصُعد، في العالم أجمع، والتحاقه بالمحور الإقليمي ومشاريعه التّدميريّة، بل تكمن أساسًا في كون لبنان -الدولة والجمهوريّة- بلدٌ يتخبط بهويته، قدمٌ في الشرق، وذراعٌ في الغرب، وقلبٌ تنتابه الصدامات الإيديولوجيّة/ الدينيّة العنيفة، الممزوجة بطابعٍ ميليشياويّ، دوريًّا.

ففي آخر تقريرٍ نُشر لها مطلع الشهر الجاري، أشارت "هيومن رايتس وتش" إلى حالةٍ مُستجدّة من الرعب والخوف في صفوف مجتمع الميم - عين في لبنان، ذلك بُعيد التّصريحات التّي أدلى بها أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، داعيًا للعنف ضدّ المثليين /ات (كالقتل وحثّ الناس على وصفهم بألفاظ مهينة ومواجهة "الشواذ" بكل الوسائل المناسبة ومن دون أسقف، خصوصاً أنها مُصدرة من "الغرب وأميركا")، ومعتبرًا أن وجودهم يهدد المجتمع، واصفًا العلاقة المثليّة بـ"الثقافة المنحرفة".

هذا التخوف من تبعات التصريحات التّي ترقى للتهديد المباشر ولها الأثر في الإخلال "بالسّلم الأهلي"، عبّرت جمعيات حقوقيّة - أمميّة عنه، طالما أنه منافٍ لكلّ الاتفاقيات والشُرع الإنسانيّة. وبذلك ترى يعقوبيان أنها لا تتأمل خيرًا في "مجلس نبيه برّي"، في هذا السّياق، وعليه تجد أن الضغوط التّي قد تُمارس من قبل الجمعيات الحقوقيّة والتجمعات الناشطة اللبنانيّة والدوليّة، قد تفيد بكبح لجام التّحريض، أو حتّى الوصول لنقطة وسطيّة، حيث لا يتعرض أفراد مجتمع "ميم- عين" للقتل كما هدد البعض.