تحريض سياسي ضد مجتمع "الميم-عين": مخاوف من عنف منفلت

بتول يزبك
الأحد   2023/07/30
اجتاحت الخطب الدينيّة وخطابات الكراهيّة مواقع التّواصل الاجتماعي (Getty)

تصاعدت في الأيام الأخيرة الحملات ضد أي أمر يتصل ولو بالشبهة بمجتمع "الميم-عين"، إن في الخطابات السياسية أو عبر وسائل التواصل، أو في النشاطات اليومية.
شبهة ألوان في كتاب مدرسي، شبهة أعلام في مهرجان صيفي، وخطابات متلفزة لقادة دينيين وسياسيين.

فهل يُنصف النصّ القانونيّ ولو بصورةٍ جزئيّة الحقّ بالتّنوع الجنسي والجندريّ، لتعود وتقمعه السّلطة الدينيّة؟ هل الضبابيّة التّشريعيّة هي التّي جعلت من خطاب الكراهيّة وفوبيا المُختلف، شرعيّةً لهذه الدرجة؟ أم هل هو استئثار النّزعة المُحافظة والمُتشددة مقاليد الحكم في لبنان، جعلت منه دولة ترعى العنف ضدّ المُختلف والانتهاك المُزمن لحقوقه وحرياته، بناءً على وجهة النّظر المُعاديّة فقط؟

لا شكّ أن هذه الأسئلة وغيرها الكثير، منطقيّة ومشروعة في خضم عودة قضيّة مجتمع الميم-عين لتشغل الحيز العام، وتُجدّد الانقسامات والشقاق بين الجماعات اللبنانيّة، وسط استفحال الخطاب المُعادي للتّنوع الجنسيّ بمواقفه المبنيّة على الكراهية والنفور المتأصلين. لكن هناك وفي زاوية النقاشات شبه المُهمشة، بُعدٌ آخر لا يتوقف فقط على الجانب القانونيّ والتشريعيّ الجافّ، بل يتعدى ذلك ليطال سائر الحقوق المنقوصة والمُنتهكة في لبنان، من حقوق الأقليات العرقيّة والدينيّة والجندريّة وغيرها، مرورًا بقضايا المرأة والطفل، وصولاً للحقّ المُطلق بالتمتع بالإنسانيّة المحض من دون قيدٍ سلطويّ (دينيّاً كان أم سياسيّاً أو حتّى عرفيّاً).

قضية مُجتمع الميم- عين
أواخر العام المنصرم، قام مجلس شورى الدولة بوقف القرار الصادر عن وزير الداخليّة، بسام المولوي، الذي طلب من القوى الأمنيّة قبلها بأشهر منع أي لقاء أو تجمع لأفراد مُجتمع الميم-عين في لبنان، وكلّ ما يَتصل بالمثليّة الجنسيّة (بالتّزامن مع فعاليات شهر "الفخر"). لحظة صدور قرار مجلس الشّورى، استبشر الناشطون والمعنيون فيه خيرًا، على اعتبار أن هذا القرار انتصر جزئيًا لحقوق الفئات الجنسيّة والجندريّة المُهمشة، وأنصف الحقّ بالتّنوع. لكن اليوم وبعد حوالى السّنة على هذه اللّحظة المفصليّة التّي طرأت على واقع حقوق الفئات المُهمشة في لبنان، عادت قضيتهم للتفاعل، بدايةً بالمحاولات المُستمرة من قبل السّلطات والجمعيات الدينيّة المُتشدّدة لحلّ جمعيّة "حلم"، التّي تُعنى بالدفاع والعمل على حقوق مجتمع الميم-عين، وهي أول جمعيّة غير حكومية (تأسست رسميًّا في بيروت عام 2001) في العالم العربيّ تعمل بهذا المجال (راجع "المدن").

وفيما لا يكاد يمرّ شهر على هذه المحاولات، يحاول عدد من الأطراف الدينيّة الأخرى بثّ الخطاب المُعاديّ للاختلاف والمُروّج للعنف ضدّه، فيما اجتاحت الخطب الدينيّة وخطابات الكراهيّة مواقع التّواصل الاجتماعي واهتمام وسائل الإعلام، ليعود ويدرج مُصطلح "الشذوذ الجنسيّ" بين الجماعات التي ترفض التعريف التقليدي للمثليّة، وتستنكر بشدّة فكرة التعايش معها على أنها "حالة طبيعيّة" أو نتيجة لظروف خارجة عن إرادة الفرد. فيما أحدثت القضيّة انقسامات حادّة في الشارع اللبنانيّ بين مُعارض لأي محاولة للتطبيع مع الاختلاف الجنسيّ ومُطالب بمقاطعة الشركات والمؤسسات والأفراد المناصرين لمجتمع الميم عين (LGBTQA+Community) وآخر مُطالب بوقف حملات التّحريض والالتفات لحلّ الأزمات المستفحلة، عوضًا عن إلهاء الشارع بالقضايا التّي تنصب في مجال حقوقيّ لا يدّ للأطراف المُعارضة له بتغييره.

مجتمع الميم-عين في لبنان
وبين معارك التّحريض والاستنكار انبثقت على الهامش مخاوف إنسانيّة من تفشي هذا الخطاب وتحوله إلى عنفٍ يطال أفراد مُجتمع الميم- عين في لبنان. خصوصاً بعدما تبنته جهات رسميّة كنواب كتلة "الوفاء للمقاومة" بُعيد خطبة أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، منذ عدّة أيام. وبما أن سجلاً من الحوادث العنفيّة بحق أفراد مجتمع الميم-عين، ارتكبتها جهات رسميّة وشعبيّة، فإن المخاوف من تكرارها فيه الكثير من الصواب. وفي حديثه مع "المدن" يشرح ف. ح. أنه وكفرد من مجتمع الميم- عين ويُقيم مع أسرته في الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت، وبُعيد السّجال الذي أحدثه خطاب الكراهيّة، بدأ يشعر بالقلّق إزاء هويته الجندريّة، وإمكانيّة معرفة مُحيطه الاجتماعي بها، خصوصاً أنه اعتاد على وصمة العار التّي تلحق بعضًا من جوانب حياته واهتماماته. قائلاً: "لا أنفي أنني أعيش حياتي بازدواجية ما، وقد أحسنت إخفاء هويتي وميولي طويلاً، من دون التّفكير الجديّ بتبعات ما أنا عليه، لكن عندما سمعت أقاربي يزدرون ما أسموه "الشذوذ" مُهددين بقتل أي شاذ يجدونه، في خضم موجة التحريض القائمة مؤخرًا، توجست، وبت لا أشعر بالطمأنينة ولو المجهريّة التّي كنت أشعر بها سابقًا".

وفي هذا السّياق تُؤكد المحاميّة والخبيرة في القانون الدوليّ ديالا شحادة، لـ"المدن" أن "هناك تمييزاً واضطهاداً بحقّ مجتمع الميم- عين، بدايةً بالاعتقالات التعسفيّة والإدانة لأفراد هذا المجتمع سابقًا، سندًا على المادة 534 من قانون العقوبات، مرورًا "بالفحوص الشرجيّة" في المخافر، وهي إجراء مهين للإنسان، قام بمنعها وزير الداخليّة، لكن اعتبر أن الامتناع عن الخضوع لها قرينة لجرم، وصولاً لمنع فرقة مشروع ليلى من إحياء الحفلات. هذا من دون الحديث عن الاضطهاد المُجتمعي والنبذ أو حتّى التمييز في سوق العمل وباقي الميادين الحياتيّة، الذي يُقاسيه بعض الأفراد، بإيداعهم من قبل ذويهم في المصحات العقليّة والنفسية، على اعتبار أن الاختلاف بالتوجهات الجنسيّة مرض وتتم معالجته بهذه الطريقة". فيما لفتت لكون وضع مجتمع LGBTQA + في لبنان أفضل من غيره في سائر الدول العربيّة التّي تعتمد تشريعات، بعضها وفق الشريعة الإسلاميّة، فيما تختلف التفسيرات الدينيّة بين مُجرّم للتنوع هذا وآخر مُتحفظ عنه.

البُعد التشريعي والحقوقي
تاريخيًّا، لا يُمكن إهمال حقيقة أن لبنان وعلى خلاف "أشقائه" من الدول العربيّة، تَمكن منذ قيامه كدولة تلتزم بدستور مُنبثق بدوره من الشرع والاتفاقيات الحقوقيّة الدوليّة، من "التّفرد" ولو بصورةٍ شكليّة عن غيره من الدول العربيّة ودول الشّرق الأوسط، من حيث التقدم الحقوقيّ برعايته للحريات وتقديسها، والحقّ بالتّنوع بالرأي والموقف، والعقيدة، والشكل، وغيرها. إلا أنّه ومع التطور المستمر في المضمارين الحقوقي والتّشريعيّ، تخلّف لبنان عن ركب هذه الحداثة. فما كان سابقًا تقدميّاً أصبح من البديهيات الإنسانيّة، وما كان يتفرد به لبنان وظلّ عليه لليوم من سُنن وتشريعات، بات اليوم بحاجة للتنقيح والتّجديد.

ومن جملة هذه البديهيات الحقوقيّة التّي تحفظ لبنان عن تكريسها صراحةً هي الحقّ بالتّنوع الجنسي والجندريّ. فمن جهة لم يُجرم النصّ القانوني هذا التّنوع وفق التزام لبنان بالاتفاقيات الإنسانيّة، وأهمها الاتفاقيّة الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التّمييز العنصريّ (بدأ نفاذها عام 1969)، والتّي تتقاطع مع مبدأ أساسيّ وهو مُكافحة أشكال التّمييز التّي تلحق الفئات الجندريّة والأشخاص ذوي الميول الجنسيّة المتنوعة. وهنا تُشير شحادة أن القانون اللبنانيّ لا يُجرم التّنوع الجنسي والجندريّ، قائلةً: "في السّابق كان هناك نصّ قانوني، يُجرم "المجامعة على خلاف الطبيعة" كما أشرنا سابقًا (المادة 534 عقوبات) وأُعتمد لتجريم التّنوع الجنسيّ والجندريّ وخصوصًا العلاقات المثليّة، لكن الاجتهادات القضائيّة لتفسير هذه المادة بالعشرين سنة الأخيرة، اعتبرت أن المادة لا تقصد المثليين، على اعتبار أن المثليّة هي نتاج الطبيعة وليست خلافها. وفيما أُعيد تفسير هذه المادة عند جزءٍ كبير من القضاة اللبنانيين، بقي الحقّ بالتنوع الجنسيّ من دون نصّ قانونيّ يحمي الأفراد، بالرغم من مصادقة لبنان على الاتفاقيات الدوليّة التّي تحميّ الحقّ بالتنوع كاتفاقية مناهضة التمييز العنصريّ. وبذلك ممكن نعتبر أن هذه الاتفاقيّة التّي يلتزم بها لبنان، هي النصّ القانونيّ الوحيد المتوافر لحماية هذه الفئات".

أضافت: "أنه من الصعب اليوم التفكير الجديّ بمبادرات رسميّة لتكريس حقوق مجتمع الميم- عين قانونيًا وحمايتها، في بلدٍ كلبنان، سلطته التشريعيّة منبثقة من أحزاب تقليديّة طائفيّة. وحتّى لو تمّ إقرار مثل هذه القوانين، فمن الصعب تطبيقها، في هذه الظروف التّي سقطت فيها سيادة القانون على يدّ المعنيين". فيما رأت أن الحلّ يمكن في تفويض الجمعيات الأمميّة لتحثّ لبنان الرسميّ على الالتزام بتعهداته الإنسانيّة.

وعلى الضدّ من كل مناخات التحريض، راجت دعوات للتمسك ببعض العادات الاجتماعيّة والعرفيّة التّي أثبتت فشلها، كالزواج المُبكر، ما من شأنه -حسب ظن المروجين له- الحدّ مما سُميّ بظاهرة "الشذوذ الجنسيّ" والذي قد ينخرط فيها قاصرون (لا يزال القانون لا يحميهم بصورة شاملة في حوادث العنف الجنسي التّي تطالهم، كقضية الطفلة لين طالب، فما بالك بأولئك المتزوجين شرعيًا من دون تسجيل زيجاتهم في الدوائر الرسميّة). وهذه الدعوات إن دلت على شيء فلعلّها تُبرهن حجم الاختلال الذي يشهده المُجتمع اللبنانيّ المُنهار. اليوم، وقبل المُطالبة بحقوق الفئات المُهمشة (وهي على قدر كبير من الأهمية)، تبدو الحاجة مُلّحة لصياغة قوانين أحوال شخصيّة جديدة، وتغليب مبدأ الحقّ والحريّة وسيادة القانون، على المُطالبين باضطهاد غيرهم، عطفًا فقط على معتقداتهم الشخصيّة.