ضريرُ الإنجيلية الاشتراكي والشيوعيون: اقتفاء أثر عشرية لبنان السوداء
اشتراكي ضرير وصامت
كان الصحافي والمحازب الشيوعي خليل نعوس (1935- 1986) يقيم في محلة المصيطبة البيروتية المجاورة لحي اللجا الشيعي الذي كان ينزل فيه الضرير علي عباني مع زوجته الضريرة ماريا شعيب وأولادهما الثلاثة، منذ الأربعينات. وبما أن حزب نعوس هو "حزب الطبقة العاملة" نشأ بينه وبين عباني، العامل الفقير في شركة الريجي لحصر التبغ والتنباك اللبنانية، تعارفٌ أدى إلى تأثر عباني بأفكار المحازب الشيوعي الذي ارتقى إلى مرتبة قيادية في حزبه في النصف الثاني من السبعينات.
وروى ابن الضرير عباني، المولود سنة 1947 في حي اللجا، لابنته ديانا، أن "ميول" جدّها "كانت يسارية واشتراكية". ويطلق الابن عليها صفة "جيدة" التي كانت تستعمل بكثافة في أحاديث جيله اليساري في الستينات والسبعينات، للدلالة على أن الشخص المقصود بها ينتمي بالسليقة إلى اليسار الاشتراكي من دون أن ينتظم دعويًا وينشط في الحزب الشيوعي أو سواه. ويضيف الإبن سميح عباني أن والده "لم يكن يكلمه عن أفكاره، لكنه كان متقبّلًا توجهات ابنه اليسارية في فتوته وشبابه، وتعرّف على معظم رفاقه الذين كان يحب مجالستهم ومناقشتهم، ويتدخل في شؤونهم". لكن علي عباني توفي سنة 1971، غداة أصبح ابنه اليساري مدرّسًا في التعليم الثانوي الرسمي، فيما اغتيل خليل نعوس في بيروت أواسط الثمانينات.
إرادة تجهيل الاغتيالات
وفي الثمانينات كانت موجة اغتيالات واسعة ومنظّمة تحصدُ قادة ومحازبين شيوعيين وبعثيين عراقيين كثيرين في مدن ومناطق لبنانية عدة. وحدثت تلك الموجة في إطار انفجار العداءات والشقاقات والمقاتل الحربية، محليةً أهلية وإقليمية (لبنانية، فلسطينية، سورية، وإيرانية) متقاطعة ومتداخلة ومتناسلة، بين أحزاب ومنظمات وأجهزة أمنية معروفة وسرية، في ما يمكن تسميته عشرية الثمانينات اللبنانية السوداء، على منوال التسعينات الجزائرية.
والحزب الشيوعي اللبناني -"حزب الطبقة العاملة" و"قائد حركة التحرر الوطني العربية" الموحدة برمتها، ضد "الأنظمة الكولونيالية"، حسب منظِّر الحزب عينه، المزدوج الإسم آنذاك: المدرس الجامعي حسن حمدان، ومهدي عامل "المناضل المفكر"، قبل اغتياله في تلك الموجة الدموية- لم يجد منذ ذلك الحين وحتى اليوم، سوى عبارة "القوى الظلامية" تسميةً "تفصح" عن القتلة، قدر ما تتستّر على فرق القتل أو الموت السرية بعدُ في ذلك الوقت. وذلك حينما تزامن إطلاق مهدي عامل تلك الصفتين الجامعتين الموحدتين الشاملتين على حزبه، مع تناحر واقتتال عاصفين بين قوى ومنظمات لا تعد أسماؤها ولا يحصى، في شوارع بيروت وسواها من الديار اللبنانية.
ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، لا يزال محاق "الظلام" والغفلة يكتنفان، ليس ما أصاب المحازبين الشيوعيين من مقاتل واغتيالات فحسب، بل يكتنفان أيضًا مقاتل حروبنا الأهلية كلها. والغفلة هذه، في شطر منها، صنيعة الرعب والترويع اللذين أشاعتهما فرق القتل والاغتيال "السرية"، قدر ما صارت تلك الفرق مشتبهة ومعروفة في ما بعد. لكن السكوت والإغفال ظلا يلفان الاشتباه بها وبأفعالها، بفعل إرادة جمعية عامة تقريبًا. وهذا كله أرهق المجتمع اللبناني، وضاعف تفكّكه واستسلامه، وجعله رماديًا وقاعًا صفصفًا. لكن إرادة السكوت والغفلة تنطوي أيضًا وبالقدر عينه، على إرادة أخرى أعتى وأصلب: اعتبار الحرب والثارات والمقاتل والاغتيالات معدن السياسة وروحها، حتى في أوقات تعليق الحرب أو توقيفها. ولا جدوى، بل من المستحيل، القيام بجردة حساب ومساءلة عن بواعث الحرب والمقاتل والاغتيالات وأسبابها وتعيين مقادير مسؤولية المتورطين فيها. وهكذا تنطوي الحرب وتتوقف لتظل مسلّطةً على الناس والجماعات، من دون أن تنقضي.
انطفاء البصر والذائقة الفنية
توفي علي عباني عن عمر 64 سنة، قبل سنة واحدة من تقاعده من عمله في شركة الريجي. وتكتب حفيدته، راوية سيرته، أن "المدينة (بيروت) سجنته في بيته، وكانت قاسية عليه، لكنها أتاحت له التعرف على عوالمها المختلفة. فهو ابن المدينة، يمشي على إيقاعها، يتفاعل مع ثقافتها، وشكّلت ذائقته الموسيقية، فعشق الاستماع إلى عبدالوهاب وأسمهان من الراديو". وإذا استعدنا محطات من حياته -ولدًا ضريرًا متسوّلًا في شوارع بيروت العشرينات، احتضانَهُ من جمعية مسيحية أدخلته طالبًا داخليًا مدرسة المكفوفين الإنجيلية، فعلّمته حرفة تقشيش الكراسي، والقراءة والكتابة الخاصتين بفاقدي البصر، إلى عزفه على آلة الكمان التي استمر يهواها ويعزف عليها في مسكنه بحي اللجا بعد زواجه وإنجابه ابنتين وولدًا، وتأثّره بالأفكار اليسارية، إضافة إلى أن والده تلقى علومًا دينية وكان شيخًا في قريته الجنوبية السلطانية- إذا استعدنا هذا كله فقد يذكّرنا بظاهرة معروفة في القاهرة طوال القرن العشرين: ظاهرة المشايخ المكفوفين الذين انتقلوا من فن التجويد القرآني إلى العزف الموسيقي والغناء في مجالس الطرب والسلطنة في الأعراس، والإنشاد في الموالد وزيارات أضرحة الأولياء. وقد يكون المثال الأبرز على ذلك الشيخ إمام اليساري، وثنائيّة أحمد فؤاد نجم، وكذلك المطرب الضرير سيد مكاوي.
لكن حال علي عباني الضرير ومصيره مع ذائقته الفنية الطربية والموسيقية، وعزفه على آلة الكمان، يشيران إلى ضعف هذين التراث والتقليد في مدينة بيروت التي قد تكون حداثتها، أقله منذ العشرينات، أدت إلى تراجعهما واندثارهما. فتراث الموالد والأضرحة ضعيف في العاصمة اللبنانية، ربما منذ صارت عاصمة حديثة لولاية عثمانية سنة 1888. وهكذا أدى انطفاء بصر علي عباني إلى تفتّح ذائقته الفنية والموسيقية، كما أدى ضعف تراث المدينة التقليدي إلى انطفاء تلك الذائقة. فمن غير الشائع والمعروف أن بيروت غنية بتراث مشايخ التجويد القرآني، ولا بتحول بعضهم إلى الطرب والعزف والغناء، شأن القاهرة، وربما دمشق بدرجة أدنى وأقل.
اقتفاء أثر زقاق البلاط
وكان الشاعر والكاتب فادي الطفيلي في كتابه "اقتفاء أثر"، قد اقتفى آثار المرسلين المبشرين الدينيين والتعليميين الإنجيليين ومدارسهم في محلة زقاق البلاط البيروتية، المعروفة تاريخيًا بحي المدارس، فصوّر الطفيلي تصويرًا روائيًا ومشهديًا بدايات انكفاء تلك المدارس وتراجعها منذ عشيات الحرب الأهلية التي أدت إلى اندثارها تقريبًا، ومنها مدرسة المكفوفين الإنجيلية، حيث أمضى علي عباني سنوات من يفاعته وشبابه.
ومن مشاهد الكتاب المتكررة، قبل الاندثار الكبير، سَيْرُ عميان يعتمرون طرابيش، وفي أيديهم عصيّ يتحسسون بها بلاطات الرصيف المحاذي لجدار مقبرة الباشورة العتيق المشيّد بحجارة رملية، أسفل محلة زقاق البلاط، قبل إنشاء نفق فؤاد شهاب. وكان أولئك العميان في مشاهد "اقتفاء أثر"، يتحسسون بأيديهم الحجارة الرملية العتيقة وثقوبها، كأنهم يتلمسون مادة الزمن المنطفئ في عيونهم. أو كأنهم يقرأون طالع أيامهم وحياتهم متمتمين ما يشبه أدعية أو تعاويذ. ولا يبعد أن يكون الكفيف علي عباني واحدًا من أولئك المكفوفين السائرين على الرصيف مقتفيًا بعصاه وبصيرته الحدسية الحادة أثر أو ذكريات أيامه في مدرسته الإنجيلية القديمة الزائلة في زقاق البلاط.
لكن ضرير الإنجيلية القديم لم يعلم ماذا حلَّ بزقاق البلاط ومدارسها الكثيرة في انتفاضة 6 شباط 1984. فالمنيّة كانت قد عاجلته سنة 1971، وأراحته من أن يعيش فصول الحروب والمقاتل في بيروت ولبنان. وترك لحفيدته المقيمة في برلين اليوم أن تروي سيرته سنة 2022. وترك أيضًا لفادي الطفيلي -قد يكون من جيل حفيدته، ومقيم منذ سنوات في أمستردام- أن يروي سيرة مقاتل زقاق البلاط وخراب مدارسها الإنجيلية والعلمانية والأرمنية، وربما أقدمها المدرسة البطريركية الناشئة في أواسط القرن التاسع عشر.
وكانت انتفاضة 6 شباط 1948 حلقة من حلقات العشرية اللبنانية السوداء، ومقدمة لمقاتل الشيوعيين، ومنهم خليل نعوس الذي تأثر به العامل الضرير علي عباني الذي نشأ على القيم الإنجيلية التي زوّدته بذائقة فنية وموسيقية اختنقت، ربما بسبب افتقاد بيروت إلى تراثٍ وتقاليد ترعاها، بينما كان ينبعث فيها إرثً حسبناه ذوى وانطوى، فإذا به يفاجئنا لنعيش اليوم في عتمة هوته الدامسة.
(يتبع)