"بنت LAU"
أحاول أن أنبش ذكريات خمس سنوات إلى الوراء، خصوصاً اليوم الأخير لي في بعلبك قبل انتقالي إلى بيروت. أذكر أن فرحتي لم تكن توصف. فقد نلت منحة دراسية كاملة لأدرس في "الجامعة اللبنانية الأميركية". في الحقيقة، لم تكن الفرحة بسبب المنحة والجامعة فقط، فأنا سأنتقل إلى "المدينة" وأعيش بمفردي لأبدأ "حياة جديدة". لم يكن الأهل راضين عن الاختصاص الذي اخترته، فأنا نلت شهادة بكالوريا في علوم الحياة، وليس منطقياً أن أصير مخرجة أو صحافية.
في بيت أهلي، لم أترك شيئاً من كتبي وثيابي وأغراضي. لم أرد أن أترك مجالاً للرجوع. أوصلوني إلى الباب وغادروا. لا أذكر أنني نظرت إلى الخلف وقتها. أشاهد الفيديو الذي صورته أنا وزميلتي في السكن في ليلتنا الأولى في الجامعة. كانت حماستنا شديدة وخططنا لكثير من الأمور. أذكر الثياب التي أرتديتها في اليوم الأول، والصفوف التي ارتدتها، والأشخاص الذين تحدثت معهم.
بالنسبة إلي، أيام الجامعة هي أيام "المرة الأولى". المرة الأولى التي لم أنم فيها، فكان over night الأول في مقهى في شارع الحمرا. المرة الأولى التي تخلفت فيها عن حضور صف مهم لأحضر مباراة المنتخب اللبناني ضد كوريا الجنوبية في الملعب تحت المطر، مع أننا لم نكن نعرف سوى إسم الحارس زياد. المرة الأولى التي دخلت فيها "مترو المدينة" وأنا أرتدي الحجاب وأشاهد رجلاً يرتدي ثياب رقص ويعتلي خشبة المسرح. المرة الأولى التي انضممت فيها إلى تظاهرة وكانت ضد التمديد. المرة الأولى التي شعرت فيها بالهواء يدخل شعري ويلامس أذنيّ بعدما خلعت الحجاب. المرة الأولى التي رقصت فيها مع رفاقي تحت المطر في الحمرا. المرة الأولى التي شربت فيها. المرة الأولى التي قصصت فيها شعري الطويل. المرة الأولى التي أخبرت فيها أهلي أنني لا أؤمن بالدين ولا أمارس الطقوس. المرة الأولى التي أعلنت فيها مواقفي السياسية التي تختلف عنهم. كانت سنوات المرة الأولى في كل شيء.
لكن الاعتياد على البيئة الجديدة لم يكن سهلاً، خصوصاً في جامعة مثل جامعتي. كان هناك فرق شاسع وواضح بيني وبين كثير من الطلاب الذين كانوا معي في الصفوف. كنت أتحدث ورفاقي في "المنحة" عن هذا الاختلاف. بعض طلاب الجامعة في البداية كانوا يعاملوننا كأننا من كوكب آخر، نحن المتفوقين الذين جئنا من المناطق النائية إلى "جامعة الأكابر".
لكنني لم أشأ أن أترك لهذا الاختلاف أن يعرقل عليّ حياتي الجديدة ومخططاتي. أردت أن أفعل كل شيء. دخلت في كثير من أندية الجامعة، وشاركت في برامجها، وتطوعت في الصليب الأحمر، وطورت أدائي على مواقع التواصل الاجتماعي وأنشأت حساباً على تويتر، وبدأت أبحث عن أمكنة لأتدرب أو أعمل فيها. وبدأت توسيع شبكة معارفي وأفكاري. لم يعد لدي وقت فراغ، لكنني كنت في قمة السعادة والفعالية.
في السنة الأولى كنت أختلف كثيراً عما أنا عليه اليوم. عندما أنظر إلى "حنين" تلك، أعرف أنني تغيرت من الخارج أكثر من الداخل. صحيح أنني صرت أقوى وأشرس وأكبر، لكن كما تبدو الصورة اليوم يعتقد الجميع بمن فيهم أهلي، العكس. المفارقة أنني بت أملك الجرأة التي لم أكن أملكها حينها.
بدأت ملامح التغيير تظهر. في اللهجة، التي أصبحت خليطاً من كل اللجهات، في الثياب، في الأفعال وفي الآراء. كانت ربما في البداية ردة فعل على ما كانت تطلقه عليّ صديقاتي في بعلبك "بنت LAU". لكن سرعان ما تطورت الصفة هذه لتدخل إلى منزلنا وأصبح، عند أهلي، "بنت بيروت". تستفزني هذه الجمل. ففي بيروت أنا "بنت بعلبك"، ولا أنفك أجاهر بالموضوع.
يقول كثيرون إن رفاق الجامعة لا يدومون. لا أستطيع إلا أن أرفض هذه الفكرة. فـ"حياتي الجديدة" ترتبط بمجموعة شابات تربطني بهن روابط أقوى من رابطة الدم. أغلب "المرات الأولى" التي خضتها كانت معهن. وهذه الروابط، ربما، هي التي جعلت الجامعة منزلاً لي. فقد شهدت غرف السكن كثيراً من أسرارنا والأحداث والبكاء والسهر والدرس والضحك والخناق والمرض والجنون والأحاديث المجدية وغير المجدية والقرارات والنودلز.
اليوم، بعدما ازدادت الهوة العائلية لتصبح "أنت" مقابل "نحن"، عندما أقيّم حياة الجامعة، أدرك أنها لم تكن على قدر تطلعاتي من الناحية الأكاديمية. لكن إذا سنحت لي فرصة إعادتها كما هي فلن أتردد.