الضاحية بـعيون "جيرانها": شركاء رغم التعارض في الرأي

فرح منصور
الإثنين   2024/11/18
سُميت الضاحية الجنوبية بـ"أم الفقراء" (جورج فرح)
على أطراف الضاحية الجنوبيّة لبيروت، يقف مسيحيوّ المناطق المُجاورة، التي تبعد منازلهم أمتارًا قليلة عن شوارع الضاحية الجنوبيّة الواقعة تحت نيران العدوان الإسرائيليّ منذ أكثر من شهرين. يتعايشون مع الحرب، يسمعون أصوات الصواريخ فتهتز بيوتهم. ومن شرفات المنازل يتأملون مئات المباني التي تتدمر خلال ثوان قليلة وتتحول لذكرى مؤلمة في قلوب أصحابها.

في مطلع خمسينيات القرن العشرين، كانت العائلات المسيحية هي الأقوى حضورًا في عدة مناطق من الضاحية الجنوبيّة. آنذاك كانت الضاحية أرضًا زراعية وخالية من العمران الإسمنتي، وكان نمط حياة السكان ريفياً وزراعياً، ومع بدء مرحلة التهجير والانتقال لمناطق أخرى، تحولت بعض الأحياء المُلاصقة للضاحية الجنوبية إلى أحياء خاصة للمسيحيين بعد أن كانت مساحات شاسعة من الزرع والأشجار.

وبعد أن طالت الغارات الإسرائيليّة مناطق عدة في الضاحية الجنوبية، لم يُخل "جيران الضاحية" منازلهم، أي تلك المناطق التي تحيط بالضاحية من عدة جهات، على سبيل المثال: "بعبدا- الحدث، عين الرمانة، فرن الشباك..".

عينٌ على الضاحية وسكانها
يقطن المصور جورج فرح في منطقة الحدث- بعبدا، مع اشتداد القصف في الأسابيع الماضية، شهدت المنطقة التي يتواجد فيها، حركة نزوح نحو مناطق أكثر أمنًا، لكن السكان ما لبثوا  أن عادوا إلى بيوتهم في محاولة للتعايش مع أصوات الصواريخ اليوميّة. ويروي لـ"المدن": "بعض المباني التي قُصفت كانت تبعد عن منزلي حوالى الـ1000 متر. يوميًا، تُسمع أصوات الصواريخ، ونتمكن من مشاهدة ألسنة النيران وهي تتصاعد. في البداية كانت حالة القلق تسيطر على سكان المنطقة خوفًا من الأصوات القوية، ومن أن يتمدد القصف العشوائي فيطاول مبانيهم، لكنه ومع مرور الوقت بدأنا نعتاد على هذه الأصوات".

خلال العقدين الأخيرين تحولت الضاحية إلى ملاذ لجيرانها لتأمين احتياجاتهم بأسعار مقبولة. عُرفت على أنها "أم الفقراء" التي تُقصد من مختلف المناطق اللبنانيّة. ويضيف فرح: "يوميًا أقصد الضاحية الجنوبية، وأتبضع من أسواقها، وأشتري من أفرانها، وحين أحتاج  لأدوات كهربائية أو لقطع محددة للسيارات، أقصدها أيضاً. في هذه المنطقة، لدي الكثير من الأصدقاء أزورهم بشكل متواصل، ومع مشاهدتي لتهديم الأبنية السكنية، أشعر بالحزن على أصحاب هذه الشقق الذين تُدمر ذكرياتهم أمام أعينهم، وبعد كل غارة، أتواصل مع أصدقائي الذين يملكون بيوتًا في الأحياء المهددة بالقصف، وأقوم صباحًا بالتجوّل في الأحياء المدمرة، وجلّ ما نتمناه أن تتوقف الحرب ويعود جميع السكان لمنازلهم، ومن الصعب أن نشعر بأننا عاجزين عن مساعدتهم".

دمار وعجز
شارع واحد يفصل منزل لورا الدويهي عن الضاحية الجنوبية، إذ تقطن في منطقة عين الرمانة، المُلاصقة لمنطقة الشياح، هناك يقبع سكان "خطوط التماس"، التي لم تكن مهمة السكن فيها سهلة نظرًا للاضطرابات الأمنية التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة. بصعوبة، تعيش لورا لحظات القصف الإسرائيلي على المباني القريبة من منزلها، وتقول في حديث لـ"المدن" إن "الخرائط الأخيرة التي نشرها المتحدث باسم الجيش الإسرائيليّ، كانت لمبانٍ في منطقة الشياح والغبيري، وهي على مسافة قريبة من منزلي، ومن شرفتي أتمكن من رؤية الدمار ومعاينته". وتتابع: "لدي طفلة صغيرة، وحين تنشر الخرائط، أبدأ بالتفتيش عن مكان آمن لوضع طفلتي فيه، أي بعيدًا عن الزجاج وكل ما قد يسبب لها الأذى، وأبقى بالقرب منها لحين إنتهاء الغارة كي لا تشعر بالخوف. وفي كل مرة يهتز المنزل نشعر بالخوف وهو أمر طبيعيّ، لكنني وفي كل مرة أشاهد حجم الدمار الضخم، أشعر بألمٍ داخليّ، وأتذكر اللحظة التي غادرت فيها منزلي لفترة مؤقتة في بداية الحرب ونزحت نحو منطقة أخرى، حينها حملت بعض الثياب في حقيبة صغيرة، لكنني لم أستطع البقاء بعيدة عن منزلي ورجعت. لذلك من المؤلم أن نرى سكان الضاحية الجنوبية يغادرون مناطقهم. وفي كل مرة أشاهد المبنى السكني يُدمر بصاروخ، أشعر بأن قلبي يتحطم مع هذه المشاهد، ففي هذه البيوت ذكريات وأحلام، في هذه المباني كان يشعر سكان الضاحية الجنوبية بأمانٍ خلال فصل الشتاء، لذلك لا يمكنني سوى أن أتضامن معهم إنسانيًا".

التضامن إنسانيًا
يقطن طوني في بعبدا، وشرفته الزجاجيّة تطلّ على الضاحية الجنوبيّة، وعلى الرغم من الغارات العنيفة التي تسببت بتكسير نوافذه الزجاجيّة وخلع أحد أبواب منزله، لكنه وعائلته لم يغادروا المنطقة أبدًا. ويقول لـ"المدن" أعود للمنزل بعد إنتهاء عملي في العاصمة بيروت، أجلس برفقة أطفالي لتأمل الضاحية الجنوبيّة، وحين تبدأ الغارات لا نتمكن من النوم بسهولة، الأصوات قوية والمنزل يهتز بشدة. ومع مرور الوقت، امتلكت مهارة في تحديد مكان الغارة، من خلال التدقيق في مكان الدخان المتصاعد، نتجمع وأطفالي الصبية أمام النوافذ، نرى الدمار يزداد يومًا بعد آخر، هي مشاهد قاسية ومؤلمة، لكنها الحرب".

لطوني أصدقاء من الضاحية الجنوبيّة، كان يقصدها بشكل دائم، وحين تبدأ الغارات يحاول الاطمئنان على معارفه الذين كانوا يقيمون في الأحياء التي تتعرض للقصف، وهم بدورهم، يحاولون الاطمئنان عليه وتفقّده بسبب قوة القصف. ويضيف: "شهدت هذه المناطق الكثير من الاضطرابات الطائفية، لكنها كانت محدودة ولا تشمل جميع السكان، فأنا أملك أصدقاء كثر من الضاحية الجنوبية وهم مقربون مني ونتبادل الزيارات. وفي أسواق الضاحية، كانت زينة عيد الميلاد تُباع، ونتشارك الأعياد مع سكان الضاحية وأهلها، وإن كان موقفي السياسيّ يتعارض مع آرائهم. من وجهة نظري، إن خيار الحرب كان خيارًا خاطئًا، ولكن من الناحية الإنسانية، لا يمكن سوى التضامن مع العائلات التي خسرت أرزاقها ومنازلها وتشردت، ونزحت طوعًا، وسنكون بانتظار الإعلان عن وقف إطلاق النار لأنه من المؤلم أن نرى الضاحية الجنوبية التي تررددنا إليها كثيرًا وهي تُدمر أمامنا".