أحمد بعلبكي لـ"المدن": الانتخابات البلدية تشرعن التسلط
شرعنة التسلط
في الأساس، يتحدث بعلبكي عن "شرعنة التسلط"، أي "شرعنة التمثيل وميزان القوى في القرى من ضمن المواجهات بين العائلات"، في محاولته تصنيف وظيفة هذه السلطات المحلية، داخل القرى أو المدن، أو في علاقتها بالنظام العام. وفي حال أجريت الانتخابات، فهناك، على ما بيّن في دراسة سابقة أجراها على انتخابات العام 2010، 3 فئات من المقترعين يمكنها أن تحافظ على هوية المجالس البلدية الحالية. فـ"عشرون بالمئة من الناخبين هم المتمذهبون، أي الذين يلجأون في خياراتهم إلى عصبياتهم، وعشرون آخرون هم المنتفعون من زبائنية النظام، وعشرون آخرون هم المستترون بالمألوف والتقية، أي الذين يسلّفون المرشحين أصواتهم، في حال احتاجوا يوماً إلى خدمة ما". وعليه، فإن مجموع هؤلاء سيؤمن "ربح الانتخابات للذين يملكون الغلبة أساساً".
لكن الجماعات وأحزابها، في حال خسرت، لا يفوتها تأمين شرعية بديلة لتسلطها. ففي انتخابات العام 2004، على ما يذكر بعلبكي، غلب "حزب الله" في الجنوب "حركة أمل"، فـ"عمدت الأخيرة إلى انشاء تعاونيات تمتلك شخصية معنوية وقانونية، ويمكنها أن تقدم خدمات مماثلة لتلك التي تقدمها البلديات، التي لا تختلف عنها إلا في كونها تمتلك شخصية تمثيلية. هذا عدا المؤسسات السياسية الاغاثية الموجودة أصلاً". واذا كانت الانتخابات في الشائع عنها مدخلاً للمحاسبة، فإن بعلبكي لا يعتقد أنها حصلت مرة، في الدورات السابقة، أو ربما تكون قد حصلت، في زمن سابق، إذ "من زمان، كان يمكنك أن تحاسب بيت الأسعد أو عسيران، عندما كانت الولاءات عائلية. لكن الآن الولاءات دينية، ونحن لا نحاسب المقدسين".
البلدية الموسعة
والحال إن لا جدوى الانتخابات في جعلها البلديات سلطة للمؤكد ليست بلا جذور وأصول. وبعلبكي في تحليله، يرى أن الخلل الأول في "الاعتراف بالقرية ككيان مستقل"، ما حوّل غاية البلدية فيها من "إدارة محلية" إلى "إدارة أهلوية سلطوية"، بغض عن النظر عن امكانياتها، وقدرتها على تأمين اكتفائها الذاتي وتحقيق التنمية في مدى أبعد. ووفق الأرقام التي يعرضها بعلبكي فإن من أصل 1500 وحدة بشرية، وهي قرى ومدن متعددة الأحجام، "هناك 750 وحدة يعيش فيها أقل من 3 ألاف نسمة. واذا افترضنا نزوح ربع هؤلاء، إلى المدن الكبرى مثلاً، فإن في كل بلدة تقريباً 2200 مقيم، و1150 منهم ناخبون، بينما لا تتجاوز نسبة التصويت في العادة الـ50 أو الـ60 في المئة، فيبدو التنافس بين عائلتين أو 3 لا أكثر".
وهذا ما ليس بلا سبب أيضاً. واذا كان بعلبكي يشير إلى دور قانون البلديات الذي صدر في العام 1977 في "تفتيت المجتمعات المحلية"، فإنه يفسره بأهدافه الواضحة، فـ"كلّما كانت البلديات أصغر، كان سكانها أكثر حرصاً على ولاءاتهم، وهذا ما يريده، أولاً، وجهاء هذه القرى، ومن بعدهم الزعماء". وهذا الشكل من العلاقات، الذي يركن في أوله إلى "الولاءات العصبية ومبدأ الزبائنية"، يعزز في آخره هذه الولاءات ومبدئها، بل "يرسخها أيضاً"، وفقه. على أن هذا التفتت، لم يكن ليُظهر مآزقه بوضوحها الحالي لولا تغيّر نمط العيش والعلاقات بين الجماعات ومجتمعاتها. ففي الخمسينيات وما قبلها كانت الزراعة هي المورد الرئيسي في المجتمع المحلي الريفي، وهذا ما تغيّر في وقت لاحق، كما كل شيء، إلى مركزية السوق. هكذا، "أصبح المجتمع المحلي محوراً، خصوصاً أن العمران بين القرى صار متصلاً، وواقعياً هناك قرية واحدة من بين قرى كل محور هي التي تستقطب الآخرين، وبالتالي فإن السوق هي التي يحدد نطاق المجتمع المحلي".
تدفع هذه الملاحظة بعلبكي إلى اقتراح الانتقال من "البلدية القرية" إلى "البلدية الموسعة"، التي تضم عدداً من القرى ضمن محور محدد. وهذا الخيار يمكنه، وفقه، أن "يقلل من الحساسيات العصبية في الانتخاب، بحيث يميل الناخبون، الذين ازداد عددهم، إلى اخيتار الأفضل والأكثر كفاءة، خصوصاً أن التنافس سيتسع ليكون بين القرى، بعد أن كان بين عائلات قليلة العدد". كما أن هذا الشكل من التمثيل، "يصبح أقرب إلى التمثيل النيابي، ما يمنح المنتخبين شرعية تمثيلية أعلى، وبالتالي قوة ضغط أكبر على السلطة المركزية". غير أن بعلبكي لا يبدو متحمساً للاتحادات البلدية، التي بدأت تنشأ في السبعينات، إذ لا يرى فيها غير "تخفيف للضغط على الزعامات، عبر تأمين تحكمهم بمشاريع البلديات من الرأس. وهي ليست مبادرة اصلاحية، طالما أن البلديات الصغيرة بقيت موجودة، وبالتالي نمطها التمثيلي العصبوي لا يزال غالباً فيها".
يوم التوتر
تتكثف الصراعات في اليوم الانتخابي، الذي يسميه بعلبكي بـ"يوم التوتر، لما فيه من شحن وتعبئة". لكنه، في ملاحظاته، يركز على فئة الناس غير المنتفعين، الذين إذا ذهبوا إلى أقلام الاقتراع "سيحاصرون من السماسرة والوجهاء بعلاقات القرابة والمونة، لتأمين تصويتهم لمرشحيهم، الذين يُختارون بمزيج من السياسة والعائلية، وإن كانت للسياسة غلبة أوضح". وهذا ما يُفسر، عنده، سبب عدم ارتفاع نسبة الاقتراع عن الـ50 بالمئة تقريباً. وهذا المشهد لا يختلف كثيراً في المدن، وإن بدا فيها اليوم الانتخابي "مجوقلاً"، حيث يُستعان بشكل أكبر بالسيارات والاتصالات. لكن في الحالتين يظهر الناس "كما لو أنهم مرصودون، فاذا قررت أن لا تذهب إلى مركز الاقتراع، يجب أن تجري حساباتك".