فاروق السبعيني لن يغادر شقته إلا جثة
وهو لا يوفر توظيف مشهديته الثابتة هذه في قضيته الأساس، أي بإعتباره مستأجراً قديماً مهدداً بخسارة شقته، في كورنيش المزرعة، التي يسكن فيها منذ العام 1978، ويدفع ايجاراً حالياً يقدر بمليون ومئتي ألف ليرة في السنة. كأن يقول إنه مهما جرى، في هذه القضية، سيبقى في مكانه، في شقته، التي لا بديل لها عنده، و"لا أخرج منها إلا على جثتي". على أن حضور المكان في حديثه، خلال دفاعه عن حقه باستمرار سكنه فيه، لا يدخل في الذكريات، التي نفترض أنه راكمها، في سنواته تلك. كما أن كل محاولة لدفعه إلى ذاكرته، تُقابل بتململ وعودة سريعة إلى القضية الأساس، التي تؤرقه والألاف غيره ممن تتشابه أوضاعهم مع وضعه.
وهذا ما يبدو مفارقاً، في قياسه على عمره، وما يمكن توقعه من رجل مرت 70 سنة من حياته. كأن القضية، عنده، ليست حنيناً أو ارتباطاً عاطفياً، بما يسكنه ويسكن فيه، بل مسألة حسابية ومادية. اذ يمكنه أن يُخبر الكثير عما دفعه على الشقة، منذ استلامه لها، وما دفعه بعدها لترميمها بعد تعرضها لقذيفة في العام 1982، وقد وصل مجموعهما إلى 60 الف دولار، ويشرح التعديلات التي أدخلها بيديه على ديكورها الداخلي، أو الزيادات التي دفعها إلى الملاك المتغيرين، في كل مرة يقر فيها قانون جديد. وكيف أنه كان، منذ بدء عيشه في هذه البناية، وكيلها بتكليف من مالكها الأول، وكيف كان يجمع له الايجار ويهتم بسلامتها ونظافتها من دون أي مقابل، حتى أنه في الحرب الأهلية لم يقبل أن تُحتل احدى شققها "إلا على جثتي".
لكن ما يبدو مأساوياً حقاً أن الرجل، الذي بدأ حياته المهنية مسؤول صالة بيع في شركة "عبد طحان"، بالقرب من مكان سكنه الحالي، يفكر قلقاً بعد 70 سنة من العيش، وزواجه وانجابه لولدين صارا كبيرين وتزوجا وأنجبا، في مستقبله لا ماضيه، بطرحه سؤالاً، يبدو كما لو أنه يلخص كل هذه المسألة، "أين يمكنني أن أذهب؟ من هم في عمري لا يمكنهم أن يشتغلوا إلا اذا كانوا يملكون شغلاً خاصاً". يقترح عليه عديله حسان القواص (64 سنة)، وقد كان في ضيافته، ويواجه المشكلة نفسها في شقته التي استأجرها، منذ العام 1977، في شارع حمد في الطريق الجديدة، أن يفرش تحت جسر الكولا. يضحكان، كأن ما يُقال لا يصدق، وإن بدا لهما أن هذا حل ممكن لمشكلتهما.
وهذا التقلب بين جدية قلقة وسخرية مُرة، بدا كأنه أسلوب في المواجهة. ذلك أن المصري، في حديثه، ينتقل بين الحالتين، في صوته وجلوسه وحركة يديه، كأنه مقيم على حدودهما. وهو، في احتجاجه مثلاً على عدم تقدم قضيتهم وعدم فاعلية التحركات التي تنظم، يحتد كأنه يخطب في الجموع عن النواب الذين يريدون أن يخلفوا الشعب، والقانون "المش مفهوم وصندوقه غير الموجود"، وصراع الأغنياء مع الفقراء، ثم يستأنف، بعدها، تقبله لواقع قانون الايجارات الجديد الملتبس، طالما أنه يتيح مجالاً للتحايل، وتمديد مرحلة غياب الحسم. وهو، فوق هذا، يبدو متأكداً أن لا حل لهذه المشكلة، غير بقاء الأمور على حالها، مستخفاً، بشكل موارب، من التحركات التي تُنفذ، ومعترضاً، على ما يروي أنه قال في اجتماع ضمه مع غيره من المستأجرين القدامى، من "عدم فعل أي شيء والاستمرار بالحكي للحكي". ولا يتوقع، أيضاً، أن يتضامن غير المعنيين بهذه القضية معهم، إذ إنه شخصياً، ورغم كونه مستأجراً قديماً، لم يتضامن مع غيره، مثله مثل القواص، إلا حين وصلت تداعيات التغيرات إليهما مباشرة.
الرجلان يقيمان في شقتهما، كل مع زوجته، وحيدين، بإستثناء الابن الأصغر لقواص، الذي لا يزال عاطلاً عن العمل. وهما لا يعولان بشيء على أبنائهم، إن كانوا يعيشون داخل لبنان أو خارجه، إلا بما يقدمونه لهما، حتى أن المصري يجد في الخروج مع إبنه وأسرته للترفيه مسألة غير هيّنة عليه. مع ذلك، يشير إلى أن ابنه، الذي يعمل موظفاً في أحد البنوك، يساعده، ويسأل المحامين في البنك. غير أن الواحد من هؤلاء يقول عكس ما يقوله الآخر، فيما يبدو اللجوء إلى المحامين، عنده، "لا يفيد بشيء، غير خسارة المزيد من الأموال".
في كل الأحوال، يعرف المصري أن عدد المتضررين من القانون الجديد كبير، ويمكن الاستفادة من ذلك في تحريك هذه القضية. وهو يخبر عن جاره، الذي يعاني المشكلة نفسها، أو سكان حي الطمليس المجاور، الذين اذا أخرجوا من بيوتهم، على ما يقول، يملأون طريقاً ويقفلونها.
* "تكريساً لحق السكن" دعت "الحملة الوطنية لدعم قضية المستأجرين" و"مبادرة الحق في السكن" إلى المشاركة في اعتصام في ساحة البربير والتظاهر وصولاً إلى ساحة رياض الصلح، الاثنين، ابتداءاً من الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر.