المعماري ناجي عاصي لـ"المدن":نشهد بدء تكوين مدينة بدون هوية
كيف تقيّم حالة السكن في بيروت؟
بطبيعة الحال نحن نمر في أزمة من نواحي عديدة. من الناحية الأولى مشروع إعادة الإعمار بعد الحرب عزل جزءاً أساسياً من بيروت عن باقي المدينة (سوليدير). كما أن إعادة الإعمار حرمت اللبنانيين، من كل النواحي، وليس فقط من ناحية التشريعات، من فرصة أن يتصالحوا مع مدينتهم. في حين أن مشاريع إعادة الإعمار توقفت عملياً في "جزيرة" وسط بيروت التجاري. ومن ناحية ثانية، الناس وُضعوا مؤخراً بين فكّي كماشة. أولاً هناك المضاربة بالعقارات، والتي هي حافز قديم عند اللبنانيين، ما جعل الأسعار ترتفع بشكل رهيب مقارنة بالحد الأدنى للأجور. وثانياً هناك قانون الإيجارات الذي أقر مؤخراً. فاللبناني صاحب الدخل المتوسط لا يمكنه أن يبقى في بيروت بسبب غلاء الأسعار، وطبعاً لا يمكنه أن يشتري أو يستأجر، وفي حال كان مستأجراً سيضطر أن يترك. من ناحية أخرى، بعد انتهاء الأحداث تحركت العجلة الاقتصادية وهذا ما حرّك العمران والبنيان، ما أدى إلى توافد أعداد كبيرة من السكان إلى بيروت، وهذا أنتج كثافة سكانية كبيرة وأزمة سير خانقة. ووصلنا اليوم إلى ما نحن عليه من إكتظاظ سكاني لا يمكننا أن ننكره. وهذا أدى بشكل أو بآخر إلى امتداد بيروت إلى معالم جغرافية أخرى، فاختلطت المدينة بالجبل، إلا أنني أعتقد أن إمتداد منظر العمران على الجبال غير مقبول.
ما هو السبب الأساسي لأزمة السكن هذه؟ ومن يتحمل المسؤولية؟
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، فإن السبب الأساسي أنه خلال الحرب شكلت ضواحي بيروت رديفاً للعاصمة. وفي مرحلة إعادة الاعمار امتدت هذه الضواحي وشكلت حلاً بالنسبة للناس غير القادرين على مواكبة أسعار العقارات والغلاء، ما شكّل متنفساً لهم. وهذا كان من الحسنات، بعدما كانت الحرب قد أوقفت الاندفاع الاقتصادي والاعمار. شخصياً، أعتقد أن بيروت تشهد اليوم ما شهدته مدن أخرى منذ 30 و40 سنة من انتشار الإعمار وكثافة السكان وقلة فرص العمل، خصوصاً بعد الوعد بالإنماء المتوازن الذي أطلق بعد الحرب ولم يتحقق بعد، بسبب الجشع في الاستثمار. المشكلة أن مسألة العرض والطلب ليست واقعية في لبنان. وغياب خطة شاملة لترتيب الأراضي اللبنانية في الأساس هو أهم المشاكل. يجب أن يكون هناك اقتصاد متوازن وانماء متوازن للحد من النزوح باتجاه المدينة وإيجاد فرص عمل في الأرياف. وهذا يحصل في بعض المناطق حالياً مثل جبيل والبترون. أما من يتحمل المسؤولية، فالجواب التقليدي هو السلطة. ولكن المشكلة كما ذكرت سابقاً في غياب سياسة مدينية وتخطيط مديني حقيقي وليس نظرياً. أعتقد دائماً أن سبب المشكلة مركزية القرار، وعدم إقرار اللامركزية الإدارية. لبنان بلد صغير وهذا الخيار قابل للتنفيذ فيه.
ما هو رأيك في قضية المستأجرين القدامى وتعامل الدولة معها؟
بالنسبة لهذا الموضوع أعتقد أن هناك إجحافاً في حق الطرفين. الجهتان تضررتا على مدى السنوات السابقة جراء غياب قانون عادل، ينصف المستأجرين والمالكين بعد انتهاء الحرب. فالمالكون لم تعد هناك أسباب تمنعهم من أن يستفيدوا من ملكهم بشكل يتماشى مع الغلاء المعيشي. وفي الوقت نفسه، لا يمكن للذين اعتادوا على هذا الإيجار المتدني أن يعتادوا فجأة على تغير الأوضاع. لكن لماذا لا يملك صاحب الإيجار القديم حق تملك الشقة التي يسكن فيها، بقيمة حقيقية طبعاً؟ بغض النظر عن القانون الجديد وحكايته والحقوق وغيرها، فإن الملاكين اليوم يرفضون أي حل ويجربون بيع هذه العقارات بأسعار مرتفعة. ولكن هناك حدوداً يجب أن توضع للحد من مسألة التملك وأحجام العقارات.
هل تعتقد أن المشكلة في أشكال وأحجام الأبنية الموجودة؟
الأحجام هي المشكلة الأساسية. ذلك أن هذه المشاريع الضخمة لا تُحافظ على النسيج العمراني للمدينة، بل تحفظ حيزاً معيناً للطبقة الميسورة. وعلى الرغم من بعض الاعتبارات البيئية التي تؤخذ في الاعتبار اليوم، لكن المعيار ليس فقط الفخامة وعظمة البناء وشكله. يجب وضع حد وشروط للبناء على العقارات ومساحتها. فنحن نشهد اليوم محواً للنسيج العمراني وبدء تكوين مدينة من دون هوية. منطقة الجعيتاوي مثلاً لا تزال تشبه المدينة اليوم ببنائها. ولكن بسبب عدم وجود روادع وشروط تحد من البناء كبير الحجم أصبحت بعض الأبنية غير متماشية مع هندسة الحي. غير أن أحداً لا يأبه بتحديد الشروط، بسبب وجود المصالح، على الرغم من تراكم الطلب على الحجم الصغير للشقق، التي ليست حتى في متناول المواطن العادي، فمن المستحيل شراء بيت اليوم في بيروت.
لكن أين دور المهندسين والمعماريين أنفسهم الذين يقومون بالتخطيط والتنفيذ؟
المهندسون لا يمكنهم أن يكونوا فاعلين في هذا الموضوع لأنهم الحلقة الأخيرة في السلسلة. يتسلمون المشروع بعد أن يتم ترتيب كل شيء. دور المهندس أن يجيب على طلب الاستثمار. لكنني لا أنكر دوره، إنما أراه غير فعال في حل المشكلة الأساسية. فبعض المقاولين يفضلون العمل على عقارات صغيرة لكي يسيطروا على الوضع المالي ويحدوا من الأخطار، لكن البنايات الشاهقة التي تنشأ في أحياء من دون تناسق مع السائد فيها غير مقبول أن تكون موجودة. وهنا دور المهندس.
ماذا ينقص بيروت كي تكون مدينة قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من السكان؟
لا أملك أرقاماً دقيقة. ولكنني أعلم أن هناك آلاف الشقق الفارغة. وقد أعيدَ النظر بالكثير من أحجام الشقق التي صممت، بعدما قل الطلب عليها. وخوفاً من أن استثمارها لم يعد نافعاً أصبحوا يخفضون المساحة، وليس حباً منهم بخلق مساحة لذوي الإمكانيات المحدودة. ما ينقص بيروت حل قضية العقارات وقياساتها. هناك تفاوت عظيم في الأحجام بين البنايات الموجودة والتي هي قيد الإنشاء حالياً. وإذا حددنا مساحة العقارات نستطيع بالتالي تجميد مقاسات الحي. وربما يمكن تشكيل حماية لأحياء فيها نسيج عمراني متماسك أو مباني أثرية ما يعطي حوافز للمحافظة عليها (تخفيف الضرائب، الشراكة مع القطاع الخاص لتأهيل الأبنية...). كما أن إعادة استعمال أو تأهيل الأبنية الموجودة حل مهم جداً. بالإضافة إلى اقرار قانون يُلزم جمعية المالكين أو المستأجرين بصيانة دورية للمبنى. فهذا يفتح مجالاً للناس للوصول إلى أماكن ليست باهظة الثمن لأنها قديمة وصيانتها لا تكلف كثيراً. ولكن كل هذا لا يحصل حالياً، إذ إن مالكي الأبنية يفضلون بيعها بسعر باهظ. لذلك أعتقد أن بيروت تحتاج إلى مواكبة من ناحية القوانين، ولا أقول إنه يجب وضع الكثير من الضوابط وتنفير المستثمرين، ولكن هناك حداً أدنى مقبولا. ومن المهم جداً مواكبة السكان في الأحياء كي يستمروا.
ماذا سيحصل بعد مزيد من الغلاء؟ وما هي الحلول التي يمكن أن يتبعها السكان للعيش بتكلفة أقل؟
في الواقع الشباب خلاقون. وهناك الكثير من الأحياء تستعيد اليوم نبضها بفضل الشباب وانجازهم لمشاريع خلاقة تُعلم الناس كيف يعيشون ويتعلمون ويعملون ويتسلون. فمشاركة السكن وتقاسم الإيجار أعادت الكثير من المباني القديمة إلى الحياة. فلن تسكن عائلة في منزل مشترك انما سيسكنها شبان يتعلمون أو يعملون. وربما يكون أحد الحلول إعادة اكتشاف المدن البعيدة والأماكن التي تربط الانسان بجذوره. وهناك فعلاً مشاريع خلاقة لها علاقة بالزراعة المحلية وغيرها يمكن أن تعيد الحياة إلى الأرياف. على المدى البعيد يجب أن تحصل تدخلات لها علاقة بالمجتمع والاقتصاد والثقافة، بحيث يمكنها أن تصوب البوصلة من ناحية العمران. لكنني أعتقد أنه يجب إعادة تخطيط المدينة. وما يحدث اليوم من استعادة لمشاريع مخططة منذ الستينات وإعادة العمل بها هو شيء سريالي، مثل جسر فؤاد بطرس الممتد من مار متر الى المرفأ. فهذه المشاريع لا تتماشى مع كيف أصبحت المدينة اليوم.
هل تعتقد أن الحل في أن تنشئ الدولة مجمعات سكنية للشباب أو مؤسسات إسكان أو غيرها؟
لا أعتقد أن Social Housing فكرة جيدة، فقد فشلت في جميع أنحاء العالم تقريباً. وقد بنيت مجمعات ضخمة في المدن بعد الحرب العالمية الثانية لتأمين كميات كبيرة من المساكن خلال أزمة ما بعد الحرب. لكن في التسعينات تقريباً بدأ يظهر أن هذه التجمعات تشكل مشكلة بذاتها، وكأنها أحياء معزولة داخل المدينة. وفكرة أن تعطي مكاناً محدداً طابعاً معيناً هي فكرة رهيبة في الحقيقة، كأن يكون هذا التجمع مخصص لذوي الدخل المحدود مثلاً. وفي لبنان، إذا كانت الدولة تملك قدرة مادية فعلياً فيمكنها بالتالي أن تضعها في خدمات ذات أولوية أكثر، كالأبنية التي تستأجرها الدولة من أجل مؤسساتها مثلاً. لكن أعتقد أن كل شيء تتحدد هوية استعماله مصيره ألّا يستمر.
كيف ترى بيروت بعد ثلاثين أو أربعين سنة من اليوم؟
عشت في بيروت عندما كانت مقطعة "كذا شقفة". الموضوع نسبي في رأيي. فهناك بعض المناطق التي لم تتغير كثيراً. لكن في النهاية المدينة تتشكل من عناصر حية ولا يمكنها أن تبقى على حالها. المهم ألّا تتغير نظرة الناس إلى مدينتهم، لكن في الحقيقة تغيرت جذرياً. في الماضي كان الناس فخورين بمدينتهم. اليوم مين في يقول هيك عن بيروت؟ التغيير الجذري في المدينة سيحصل عندما يحصل تغيير جذري في وعينا ونظرتنا إليها. يجب أن نتعلم أن نمشي فيها ونستعملها بشكل يضع حلاً للتوجه الأحادي للمدينة وفهمها على أنها مجرد مكنة أموال تضخ أكثر مما نضع فيها. ومن الطرق الممكنة لتحفيز هذه العلاقة إعادة إحياء المساحات العامة والنشاطات التي تربط السكان بمدينتهم. لا أعتقد أن مشاريع الطرش بالأصفر والبرتقالي تحل المشكلة، إنما أعتبره "بهدلة". هذه الطرق لا تقدم ولا تؤخر. إنها إشارة إلى أننا نعيش في عالم خامس. يمكنهم وضع نفس الأموال لانجاز اصلاح في العمق، أو تأهيل الأرصفة، وليس لاصلاح الواجهة.