قصة "البسابورط" اللبناني
ليس جواز السفر مجرد وثيقة رسمية تتيح لحاملها عبور الحدود، بل هو أيضاً تعبير عن سيادة الدولة على رعاياها. فالكيانات السياسية المعترف بها وفقاً للقانون الدولي العام، يحق لها الدخول في علاقات مع سائر الدول والمنظمات الحكومية ويشكل جواز السفر تجسيداً لهذا الحق، ويعكس مدى أهمية تلك الأخيرة في المجتمع الدولي ومقدار نفوذها بين مختلف الأمم.
كان لبنان في القرن التاسع عشر تابعاً للسلطنة العثمانية. ما جعل من اللبنانيين مواطنين عثمانيين يحتاجون في تنقلاتهم الخارجية إلى جواز سفر عثماني. ونتيجة التطور الذي حصل في طرق المواصلات، ودخول الدولة العثمانية في مرحلة من التحديث القانوني والإداري، وانخراطها المتزايد في علاقات ديبلوماسية مع البلدان الأوروبية، إضطرت السلطنة إلى تنظيم حركة العبور على حدودها المترامية الأطراف، فأصدرت في شباط سنة 1867 أول قانون عصري لجوازات السفر.
عرف هذا القانون بـ"نظام البسابورطات" ونص في مادته الأولى على أن "كل من رغب في الدخول إلى الممالك المحروسة الشاهانية، أو الخروج منها، أو أن يسوح داخل البلاد، لا بد له من أن يأخد بسابورطا موافقاً للأصول والقواعد من طرف مأموره الحقيقي". وقد منح هذا الجواز بإسم السلطان، وهو عبارة عن ورقة واحدة، تحمل كل التفاصيل الضرورية عن المسافر.
مع انهيار السلطنة العثمانية أصبح لبنان جزءاً من الدول المشمولة بالانتداب الفرنسي، لذلك نصت المادة الثالثة من صك الانتداب في العام 1922 على أن "العلاقات الخارجية والقنصلية لكل من سوريا ولبنان هي من صلاحيات الدولة الفرنسية التي تتولى حماية مصالح اللبنانيين والسوريين المتواجدين في الخارج". وقد أصدر المفوض السامي في 24 نيسان 1924 القرار رقم 2576، وهو أول تشريع يتعلق بتنظيم جوازات السفر في لبنان. نص القرار في مادته الأولى على أن جواز السفر يمنح باسم المفوض السامي للجمهورية الفرنسية على أن يكون صالحاً لسنة واحدة قابلة للتجديد.
هكذا، عرف لبنان الحديث أول جواز سفر، وكان يومها ورقة كبيرة بعض الشيء عليها صورة صاحب الجواز، مع المعلومات المتعلقة به، إضافة إلى ختم المفوضية السامية.
ولما كانت الحاجة قد برزت لتعديل القرار 2576، أصدر المفوض السامي في 24 كانون الأول 1928 القرار رقم 2283 الذي أعاد تنظيم منح جوازات السفر، فأكد مرة أخرى في مادته الأولى أن جوازات السفر تمنح باسم المفوض السامي، بينما نصت المادة الثالثة على ضرورة وضع "صورة شمسية حديثة للشخص العائدة إليه التذاكر على أن يكون قياسها أربع سنتيمترات على أربع سنتيمترات". من هذا التاريخ بدأ جواز السفر يتخذ شكله المعهود، إذ بات يأتي على شكل دفتر صغير الحجم يتألف من 52 صفحة، على أن يكون الرسم المفروض لقاء الحصول عليه 325 غرشاً عن سنة و125 غرشاً لجواز صالح عن شهر فقط.
بعد تحرر لبنان من وصاية الانتداب، أصبح دولة ذات سيادة معترفاً بها في القانون الدولي، فتبدل جواز السفر مرة جديدة، وبات يمنح باسم رئيس الجمهورية الذي "يأمر السلطات المدنية والعسكرية (...) أن تجيز مرور حامل هذا الجواز". ظلت هذه الصيغة متبعة منذ الاستقلال رغم التعديلات التي طرأت على الجواز لجهة الحجم واللون، حتى إتفاق الطائف والتعديلات الدستورية التي نقلت السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء. ومنذ تسعينات القرن الماضي بات جواز السفر يصدر عن المدير العام للأمن العام الذي يمنحه باسم رئيس الجمهورية.
هكذا، يكون جواز السفر اللبناني قد مضى عليه نحو القرن منذ بداية الانتداب الفرنسي، حتى الأمس القريب مع إصدار الجواز البيومتري. يعتبر جواز السفر وثيقة تاريخية في غاية الأهمية لهواة جمع الوثائق القديمة، لاسيما أنه يحمل عادة على صفحاته تأشيرات مهمة، وطوابع تعود لمختلف البلدان التي زارها حامله.