ست سنوات بلدية في زحلة: محاولات لـ"تحرير" العمل الأهلي
واذا كانت صفحات كثيرة على فايسبوك تُحوّل إلى استفتاء على مجالس بلدية مختلفة، خصوصاً بعدما لاحت في الأفق امكانية اجراء هذه الانتخابات، فإن في زحلة وقرى قضائها محاولات أكثر جدية بذلها أفراد حولوا المطالب إلى قضية رأي عام، فنجحوا في أماكن وأخفقوا في أخرى. فيما يلي بعض تجارب هؤلاء مع البلديات والقيمين عليها.
الأشجار المُعمّرة
"كتب للأشجار المُعمّرة على بولفار زحلة عمر جديد". إلى هذه النتيجة انتهت حملة "إعادة تشجير بولفار زحلة"، التي جاءت كحركة عفوية انطلقت عبر صفحة على فايسبوك، تفاعل معها الزحليون، ليوقفوا مشروع استبدال أشجار الشربين والسرو المعمرة على بولفار المدينة، والتي تشكل جزءاً من الذاكرة البصرية للأجيال المتعاقبة منذ شق البولفار في منتصف القرن الماضي، بأخرى من نوعي Tilleul ،celtis australis التي قدمتها وزارة الزراعة الى البلدية.
أطلقت الحملة، في العام 2013، الصحافية دانييل الخياط وشقيقها شبل الخياط، عبر صفحة أرادت التعويض عن تقصير البلدية في إطلاع الزحليين على المشروع، فنجحت في تجميد "مجزرة" القطع العشوائي للأشجار، بعدما ألزمت البلدية ووزارة الزراعة بنمط من التعاطي العلمي مع الأشجار غير المُهدِّدة للسلامة العامة.
تشرح الخياط أن مسألتين أساسيتين دعمتا هذه الحملة، أولهما أن القضية بحد ذاتها تتعلق بذاكرة معينة، لذلك بمجرد ان تألفت الصفحة كان الإقبال عليها سريعاً، فـ"سبقنا الزحليون وتحكموا هم بالصفحة، وكان تدخلنا للحؤول دون تحولها إلى منبر لتصفية الحسابات مع البلدية، فتركز النقاش حول تصويب أداء البلدية في هذا المشروع، الذي سيُغيّر من المشهدية العامة في المدينة، ونجحنا الى حد بعيد بإشراك الناس في النقاش، وفي حمل السلطة المركزية على عدم قطع كل الأشجار".
أما السبب الثاني لنجاح الحملة، وفق الخياط، فـ"كان تراجع السلطة المركزية السريع عن المشروع، وفرملته فوراً من قبل مدير عام وزارة الزراعة والوزير. لا نعرف لماذا خافوا، هل خافوا من اندفاعة الناس أم كان هناك شيئ آخر". لكن الجيد في هذه التجربة، كما تقول الخياط، إن "الناس صارت تقترح، ولكن السلطة المحلية في المقابل لم تأخذ باقتراحات الناس، فرئيس البلدية لم يأخذ زمام المبادرة كسلطة مقررة، وبقي يسلم القرار إلى السلطة المركزية، علماً أن أول مشكل أدى إلى طرح الموضوع على الرأي العام، كان عندما أتوا لتغيير وجه المدينة ولم يُعلموا الناس، بل اسقطوا القرار حول قطع كل الاشجار وزرع أنواع جديدة. لم نر المشروع الذي تكلموا عنه، وحتى اليوم لا نعرف شيئاً عن المشروع الذي قيل لنا إننا خسّرناه للمدينة".
وتضيف: "المشكلة لدينا ولديهم أننا لم نذهب إلى الحل. أوقفنا المشروع بعدما قطعوا الأشجار التي قالوا علمياً إنها مريضة، ولكن بعدها لم يفكروا مع الرأي العام في حل بديل. جاؤوا بالأشجار الموهوبة ونشروها في زحلة، ولم تقترح البلدية حلاً بديلاً ولا نحن اقترحنا".
على أن ما فرمل التحرك في المقابل، بحسب الخياط، "الخلافات السياسية بين البلدية وراعيها السياسي، والتي كان يمكن أن تؤدي إلى استقالة المجلس، وهذه مسألة لا يمكن أن نحملها في الظرف السياسي الذي نعيشه، ما أجبرنا على الانصياع لأنصاف الحلول، وجعلنا نفضل السلطة السيئة ونعمل على فرملتها، أمام فراغ لا يمكن التعاطي معه ويُضيِّع المسؤوليات".
ما تستخلصه الخياط انه "عندما يكون هناك قضية تمس وجدان الناس، يتفاعلون معها بشكل تلقائي، ويتحرر الناس من انتماءاتهم السياسية، ولكن للأسف هذا التفاعل يُحبط لاحقاً، ربما لأن السلطة المحلية تخاف من قوة الشارع، فتسعى لتحطيمه كما في حملات المجتمع المدني التي رأيناها مؤخراً مركزياً". أما الانتخابات فهي فرصة للمحاسبة، إذ إن "حركتنا فضحت البلدية التي لم تتمكن من الدفاع عن قرارها، ونتج عن هذا التحرك في زحلة صفحات عدة، بعدما ظهرت البلدية في موقع غير الممسك بزمام الأمور"، ولذلك تقول الخياط: "قد يحافظ الناخبون على انتماءاتهم السياسية، ولكن هذا المجلس البلدي بأعضائه ورئيسه سيحاسبون بالتأكيد".
تلوث البردوني
بالنسبة لتانيا حمصي لا يقل موضوع تلوث البردوني أهمية عن إعادة تشجير بولفار زحلة، ولذلك هي جزء من الحملتين، بعد ان أظهر "تجمع شباب زحلة المقيم والمغترب" جدية أيضاً في طرح حلول لرفع التلوث عن البردوني. عن قرب تعرّف أعضاء الجمعية إلى عقليات القيمين على بلديات حزرتا، قاع الريم وزحلة المعنية بموضوع تلوث البردوني، والتي تفاوتت بين اللامبالاة والتجاوب المحدود، خصوصاً أن رؤساء البلديات الذين "استوعبوا" الحملة بداية بلقائها على طاولة نقاش واحدة، عمدوا إلى التهرب من ملاحقاتها للقضية لاحقاً. وتنصلوا من التوقيع على عريضة أعدتها الجمعية لجعل القضية مطلباً شعبياً.
تستخلص الحمصي أن "مشكلتين أساسيتين تعوقان التفاعل بين البلديات والمجتمع المدني، أولا نقص الوعي على صعيد الرأي العام، وثانياً قلة وعي البلديات لأهمية دور هذا المجتمع، الذي يفترض أن يكون داعماً لها وليس في مواجهتها. فهناك نمط ترسّخ مع السنوات، أن الرأي العام لا يطالب واذا طالب لن يجد من يرد عليه، فيما البلديات تعتبر أنها أكبر من المساءلة والمحاسبة، طالما أنها تدين بسلطتها الى الجهة السياسية التي أوصلتها إلى المجلس البلدي. وهذا ما يجعل البلدية سلطة موجودة لخدمة مصلحة معينة، في مقابل تحججها بالروتين الاداري لتبرير تقصيرها المغطى سياسياً في الاجمال، ما يدفع حركات التغيير الشعبية، اذا وجدت، إلى احضان السياسة والسياسيين، وهذا ما حصل في قضية تلوث البردوني مثلاً، حيث شعرنا أننا بحاجة الى الدعم السياسي لتخطي الروتين الاداري ولتحريك الملف لدى الوزارات المعنية".
على أن المحاسبة في رأي الحمصي تكون "بتغيير العقلية الانتخابية، وبإختيار الشخص المناسب في المكان المناسب، أياً كانت انتماءات من يترشحون لهذه الانتخابات، إذ لم يعد مسموحاً أن تسمى البلدية على اسم جهة سياسية، بل مطلوب بلديات من دون ارتباطات سياسية أو حتى عائلية وعشائرية، فالشخص المرشح ومصداقيته واندفاعه للخدمة عناصر أساسية في نجاح أداء البلدية. والعقل، لا العاطفة أو المصلحة، هو الذي يجب أن يتحكم بإختيار من سيدير هذه السلطة".
قضية الدمج
تجربة "اتحاد المقعدين اللبنانيين" مع بلديات البقاع لحملها على تبني قضية الدمج لم تكن مختلفة، اذ اصطدمت المحاولات، كما تشير مديرة مركز الاتحاد سابقاً رسمية هندي، بـ"عقلية رؤساء وأعضاء المجالس البلدية أولاً، وباللامبالاة التي أظهرها المجتمع المدني ثانياً". هكذا، نجح الاتحاد في قب الياس مثلاً وفشل في معظم البلدات البقاعية الأخرى.
تروي هندي قصة نضال الاتحاد واعتصاماته المتكررة أمام البلديات من أجل حثها على التجهيز الهندسي للأماكن تسهيلاً لحركة الأشخاص المقعدين، وتقول "ها هي انتخابات جديدة تلوح في الأفق ولا نزال نكرر المطلب نفسه بتجهيز الأماكن بما يسمح بانتقال كرسي المقعد". وتشرح أنه "في إحدى مناسبات تكريم اتحاد المقعدين في مهرجانات قب الياس، لم يلحظ منظمو الحفل كيفية صعودي إلى المسرح، حملوني مع الكرسي لأتلقى الدرع. ولكن ذلك كان حافزاً في السنوات التالية لتجهيز المسرح بشكل أفضل. وكانت بلدية قب الياس نموذجاً للتعاون المثمر بين الاتحاد والبلدية"، الأمر الذي تأسف هندي لكونه لم ينسحب إلى بلديات أخرى. فـ"بلدية بر الياس التي يقطنها عدد كبير من المقعدين، أقامت الأرصفة من دون أن تلتفت إلى طلبنا بتجهيزها لنا، بل اعتبروا أن مسافة الـ50 سنتمترا التي فصلت بين الطريق والرصيف كانت كافية لعبورنا".
تُحمّل هندي المسؤولية أيضاً للرأي العام ووعيه، وتعتبر أن تفاعل الجمعيات والمجتمع الأهلي مع البلديات يمكنه أن يحسن أداءها. فـ"من حق الناس أن تحاسب البلدية على أساس أن لكل مواطن حقاً يجب أن تلحظه السلطة المحلية. ولا يجوز أن نترك البلدية تعمل على هواها في فترة ولايتها ولا نلاحقها أو نحاسبها على أعمالها إلا من انتخابات إلى أخرى، حيث تتراجع قدرة المحاسبة أيضاً أمام منطق العشائرية والعائلية السائد في الانتخابات، حيث يتعاطى البعض مع البلدية كسلطة وجاهة في القرية".
"عالطريق"
هذا المفهوم العشائري والعائلي للانتخابات البلدية يشكل صلب معركة تحرك "عالطريق"، الذي نشأ في مجدل عنجر اثر محاولة نقل نفايات بيروت وجبل لبنان إليها قبل أشهر. ويشرح خالد حمود، مطلق التحرك، أن "البلديات في القرى هي في الإجمال وسيلة لخدمة المصالح، وأعضاءها غير معتادين على مواجهة القضايا المطلبية. فبالنسبة لهم البلدية زعامة أو عائلة حاكمة. لذلك عندما أرسينا نمط المساءلة كان طبيعياً أن نواجه بالكراهية. بينما الخوف من الضغط الشعبي ألزم العائلات على أن تتبعنا، خصوصاً بعدما استقطبنا اهتمام الاعلام الذي لم يتصرف كإعلام سلطة".
في رأي حمود "الناس تسهم في خلق هذه الصورة للبلدية. حتى اليوم هناك شبه قناعة في مجدل عنجر بأن أي لائحة شبابية مستقلة عن العائلات محكومة بالفشل". وهو يعتبر أن "من يسعى للحفاظ على هذه العقلية يسعى للاستمرار في القبض على السلطة، تماماً مثل الطبقة السياسية المتمسكة بالنظام الطائفي على مستوى لبنان". لذلك لا يرى حمود "نزعة للمحاسبة في مجدل عنجر حتى في الانتخابات البلدية. فزعيم العائلة حتى اذا قصّر لا يُحاسب، وهذا ما نلمسه في ردود الفعل التي يعبر عنها البعض في العالم الافتراضي، حيث تُطوب البلدة أحياناً لعائلات أو أشخاص، حتى اذا كان هؤلاء دون المستوى الثقافي الذي يسمح بطرح الأمور بطريقة حضارية".
ولكن في ظل التركيبة الاجتماعية التي تُذكّي رجال الدين في المجدل، لا يرى حمود ضرراً في تشكيل لائحة مدعومة من المشايخ في وجه لائحة العائلات، كما هو مطروح حالياً، لأنه "حينها اذا انتخب الناس المشايخ، فهذا يعني أنهم انتخبوا ضد العائلات. واذا انتخبوا ضد المشايخ فهذا يعني أنهم قادرون على التصويت ضد رجال الدين وفي الحالتين يكون الناخبين قد تححروا". ويستخلص حمود "أننا في البقاع تحديداً لسنا معتادين على فكرة المجتمع المدني، أي على بروز شباب غير مرتبطين بأحد، ومن هنا يبقى هذا المجتمع بحاجة الى دعم من أجل التغيير الذي يجب أن يشمل أحياناً كل الطاقم البلدي من شرطي البلدية إلى الرئيس، إذ لا يجوز أن تُحكم البلديات بعقلية الاستزلام".