نساء سوريات تحت برقع "داعش"
1
العودة إلى "الدير"
لم تكن حنان (21 سنة) تدرك أنها سترتدي الأسود من رأسها حتى أخمص قديمها، اذ كانت تحلم أن تصبح مقدمة أخبار في قناة تلفزيونية. وهي كانت قد تركت دراستها بسبب الحرب المستمرة منذ أربع سنوات، ولم تعد عائلتها قادرة على إعالتها ودفع نفقات حياتها الدراسية في دمشق. هكذا، تبخّر حلمها مع عودتها الى دير الزور مسقط رأسها ومكان إقامة العائلة.
تقول حنان أنها شعرت بسعادة غامرة مع تحرير محافظة دير الزور وغالبية أحياء المدينة، لكنها شعرت بالصدمة بسبب ما رأته من فظائع في المدينة على يد "داعش". "لم أكن أتخيل في حياتي أنني سأرتدي الحجاب، فما بالك بالبرقع؟ قناعتي كانت أن الحجاب يحتاج الى إيمان وقناعة بفكرة غطاء الشعر، ولم تكن هذه الفكرة موجودة عندي. ولم أكن مقتنعة أن الله خلق لي شعراً كي أغطيه بقطعة قماش".
"عندما دخل الباص محافظة دير الزور بدأت أرى رايات سود. كنت أسمع عن التنظيم لكن لم أكن أتخيّل أن ما يُحكى عنه حقيقة. كنت أظنها محاولة لتشويه صورة أحد فصائل الثورة، لكن ما إن أوقفنا أول حاجز للتنظيم حتى بدأت الصورة تتضح. سحبني أحد عناصر التنظيم من شعري خارج الباص، وانهال عليّ بحزامه وهو يسأل، بلهجته المغاربية، أين حجابك يا فاجرة؟ عندها تدخلت امرأة عجوز وأوقفته عن جلدي، وأعطتني عباءتها الديرية السوداء لأغطي بها نفسي. وعندما دخل الباص الى المحطة تفاجأت بشكل والدي ووالدتي. اذ رأيت والدي لأول مرة بلحية وأمي ترتدي البرقع، على الرغم من ميولها اليسارية. لن أنسى تلك الصورة ما حييت".
الصندوق
لا خروج من البيت الا بالبرقع. وهو اذا كان أسود وسميكاً وطويلاً، يجنب المرأة الاهانة في الشارع من قبل "عناصر الحسبة". "براميل من السماء والحسبة في الشوارع. هذه حال حي المطار القديم الذي أسكن فيه. حرمني التنظيم من كل شيء تقريباً. يمكنني الذهاب الى السوق لكن لن أجد ما أشتريه، اذ يمنع على الرجال بيع الملابس النسائية ويمنع في المقابل على النساء العمل، فلا ثياب للنساء. أما البرقع فحكاية أخرى. ألبسه فأشعر أنني أوضع داخل صندوق محكم الاغلاق، شديد الظلام والحر. لم أكن أصدق متى أعود الى البيت لكي أخلعه. وفي الصيف لم أغادر المنزل ولا مرة، لأني لم أكن قادرة على الدخول في ذلك الصندوق مرة أخرى".
رحلة الخروج
وعندما وصلت حنان الى منطقة تل رفعت شمال حلب في طريقها مع عائلتها الى تركيا، كانت أشبه بالسجين الذي أطلق سراحه. "ركبنا الباص من مدينة الرقة باتجاه حلب. كانت المرة الأولى التي اتجه فيها الى حلب. كنت أنظر حولي الى وجوه الناس والخوف يملأها. الجميع كان يتجنب النظر في وجوه عناصر التنظيم عند نقاط التفتيش والحواجز. وعندما دخلنا مدينة تل رفعت رأيت علم الجبهة الشامية وعلم الثورة السورية مرفوعين عند مدخل المدينة، فأدركت أنني وصلت الى الحرية. لا أنسى كيف خلعت البرقع والحجاب داخل الباص وبدأت بالغناء. سائق الباص طلب مني أن أتوقف وطلب من عائلتي منعي من الغناء، لأننا لا ندري ماذا ينتظرنا في الطريق، حسب قوله. توقفت فعلاً وأبقيت الحجاب والبرقع بين يدي، خوفاً من ظهور عناصر التنظيم من جديد. نزلنا من الباص في تل رفعت، وأشار والدي الى سائق سيارة أجرة طالباً منه نقلنا الى معبر باب السلامة مع تركيا. السائق أخبرنا أن الحدود مغلقة لكنه قادر على إدخالنا الى تركيا إذا دفعنا له المبلغ المطلوب. وافق والدي مباشرة، وركبنا السيارة فطلب مني السائق وضع الحجاب ولبس العباءة لأن عناصر جبهة النصرة هم من سيدخلوننا الى تركيا، فهم من يسيطرعلى نقاط التهريب. وضعت الحجاب من جديد على مضض. لم تمض دقائق معدودة حتى توقفنا وبدأ السائق بالحديث مع شخص كان يناديه بـ"يا شيخ". نظر الرجل إلينا وسأل والدي من أين جاء، فأجبته بسرعة "من الدير". لم تعجب الرجل ردة فعلي، لكنه قبلها على مضض أيضاً. دفع والدي له ستة آلاف ليرة سورية، أي ألف ليرة عن كل شخص من العائلة، وركبنا في شاحنة صغيرة حتى وصلنا الى خندق بعمق مترين تقريباً. ومع عبور والدي إلى الخندق خلعت الحجاب مباشرة والعباءة ورميتها باتجاه عناصر جبهة النصرة وأنا أصرخ "إن كان هذا هو الاسلام خذوه، لا أريده".
تسعى حنان لإكمال دراستها في جامعات تركيا، وقد بدأت بتعلم اللغة التركية، وهي مصرة على أن تصبح مقدمة أخبار في قناة تلفزيونية.
2
الهروب بالإبن
أما أم سامي، فهي سيدة من مدينة الطبقة، فقدت زوجها في قصف للنظام على المدينة، وتعيش مع أولادها الثلاثة وأكبرهم سامي ابن العشر سنوات. ولا تختلف حالها عن حال حنان كثيراً، فقد فرض عليها البرقع. ومع منع التنظيم النساء من العمل، أصبحت أم سامي وأولادها بلا مصدر للدخل، فعائلة زوجها من الأسر الفقيرة في الطبقة وليست لديهم القدرة على مساعدتها. أما عائلتها فقد استقرت في دمشق منذ سنوات طويلة ولا يجمعهم بها أي رابط.
لم تكن أم سامي، وهي مدّرسة لغة عربية في إحدى مدارس المدينة قادرة على العمل، ولا على إعطاء دروس خصوصية للطالبات. فالتنظيم يمنع عمل النساء منعاً باتاً. تقول أم سامي إنها قررت النزوح الى تل أبيض خوفاً على ولدها سامي، الذي بات في سن مناسب ليضمه التنظيم الى معسكراته. "غادرت الطبقة فجراً مع أولادي الثلاثة، سامي وميس وحسناء، ولم أكن قادرة على التفكير إلا في شيء واحد هو أن سامي قد يدخل احدى معسكرات داعش. توجهت الى تل أبيض، فهناك يسكن بعض أصدقاء زوجي، وكنت قد أخبرتهم بخوفي على سامي. لكنهم قالوا لي إن الوضع في تل أبيض لا يختلف كثيراً عن الطبقة، فالبلدة تحت سيطرة التنظيم أيضاً. فاقترحوا علي التوجه اليهم لعلّي أستطيع، بعدها، العبور مع اولادي الى تركيا أو إلى مناطق أخرى خارج سيطرة داعش".
أسلاك شائكة
تضيف أم سامي: "بقيت في تل أبيض سبعة أشهر. لم أغادر المنزل ولم أسمح لسامي بالخروج الى الشارع ولا حتى مرة واحدة. اذ انه طويل وضخم الجثة مقارنة بأقرانه، لذلك سيلفت انتباه التنظيم اليه مباشرة. ومع اشتداد المعارك بين التنظيم والجماعات الكردية بدأ الناس يقولون إن عناصر التنظيم يعتقلون جميع الذكور ويسوقونهم الى المعارك مع الاكراد. لم يكن أمامي خيار سوى الهروب مع أولادي وعائلة صديق زوجي. لكننا بقينا نتابع الاخبار لحظة بلحظة لمدة أسبوع كامل لكي نعرف أين يتقدم التنظيم وأين يتراجع، وقرأت على فيسبوك أن السلطات التركية سمحت للكثيرين بالعبور الى الاراضي التركية، فتوجهنا الى هناك. وانتظرنا لأيام مع آلاف العائلات قبل أن ندخل الى مدينة أورفة الاسبوع الماضي. ثمانية أيام في الحر عند الحدود ولم تكن هناك امرأة واحدة تجرؤ على خلع النقاب، ذلك ان عناصر داعش كانوا قريبين منا، وكثيراً ما كانوا يقومون بتفتيش الناس البعيدين عن الحدود. كنا نحاول الالتصاق بالاسلاك الشائكة لأنها المكان الوحيد الذي لن يقترب منه عناصر التنظيم، لكن رغم هذا لم أكن أجرؤ على رفع النقاب عن وجهي لاتنفس. عندما أخبرنا عناصر الجندرما التركية أننا سندخل لم أكن أصدق أنني سأنجو مع أولادي. عندما عبرت علق البرقع بالأسلاك الشائكة وتمزّق، رجل عجوز كان يقف قربي قال لي "هذه إرادة الله، أن يتمزق هذا السواد". دخلنا مدينة أورفة وبعض النساء ما زلن يضعن البرقع. قالت لي إحداهن أن عناصر داعش يمكن أن يدخلوا الى المدينة بأي لحظة، لم أدر ماذا أفعل، فتوجهت الى سيارة لشرطة المرور، وسألتهم هل من الممكن أن يدخل عناصر داعش الى المدينة؟ انفجر عناصر الدورية بالضحك. أجابني أحدهم بلهجة عربية ثقيلة "اخلعي هذا الشيء الاسود، أنت في تركيا ولا يمكن أن يصل إليك أحد".
خمسة أيام مرت على أم سامي من دون برقع، بعد ارتدائه أكثر من عامين في ظل التنظيم، وذلك ليس حداداً على الزوج القتيل، بل خوفاً من متطرفين لن يتورعوا عن جلدها أمام الناس.