بيع وشراء الذهب بالتوقيت السوري

إياد الجعفري
الإثنين   2024/09/16
غاية النظام تضييق هوامش قدرة الفاعلين الاقتصاديين السوريين على تحويل ليراتهم إلى ذهب أو دولار (Getty)
لا بد أن الشريحة الأكثر نشاطاً وتأثيراً في الحياة الاقتصادية بمناطق سيطرة النظام السوري، قد انشغلت يوم السبت الماضي، بخبرين. الأول: تكليف الأكاديمي ووزير الاتصالات الأسبق، محمد غازي الجلالي، بتشكيل الحكومة الجديدة. والثاني: تسجيل سعر الذهب الرسمي في سوريا عتبة قياسية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، بدفعٍ من ارتفاع سعر الأونصة العالمي لعتبة غير مسبوقة، يوم الجمعة.

وبدايةً، نقصد بالشريحة المشار إليها أعلاه، أولئك الذين أكثر ما يميزهم، تلك الحيوية اليومية في نشاطهم، وتكيّفهم مع تحوّلات المشهد الاقتصادي السوري. لذا سيكونون أكثر اهتماماً بشخصية رئيس الوزراء الجديد، من غالبية السوريين المنتمين لذوي الدخل المحدود، والذين لا يعنيهم الكثير من تغيّرات التكنوقراط السوري، ما دامت القرارات الاقتصادية في معظمها، على مدار السنوات الست الفائتة، كانت على خلافٍ مع مصالحهم. وبالعودة إلى شريحة الفاعلين الاقتصاديين في البلاد، فإن لازمة مشتركة تجمعهم، وهي حرصهم الشديد على حفظ قِيم أموالهم، وتحويل السيولة منها بالليرة السورية، والفائضة عن حاجة التعاملات اليومية، إلى ملاذاتها الآمنة. فهذه اللازمة لنشاطهم اليومي، هي الضمانة لاستمرارهم فاعلين اقتصاديين، على المدى المتوسط والبعيد. لذا، يتجلى الدولار والذهب، كشغلٍ شاغل لهم. مما يجعل خبر القفزة الأخيرة للذهب، مثار اهتمام بالنسبة لهم، ربما أكثر من شخص رئيس الوزراء الجديد.

ومع توقعات عالمية بالمزيد من ارتفاع سعر الذهب في الفترة المقبلة، هل سيشتري الفاعلون الاقتصاديون السوريون المزيد من ذهب الإدخار؟ قد تبدو الإجابة على هذا السؤال، عصيبة. فحرص شريحة الفاعلين الاقتصاديين في سوريا على تحويل فوائض سيولتهم من الليرة إلى دولار أو ذهب، لطالما كان موضع استهداف من جانب النظام السوري، عبر أدوات مختلفة، أبرزها، جمعية من المفترض أنها تمثّل مصالح المشتغلين بصنعة الذهب، لكنها مضطرة للخضوع لتوجيهات النظام في الوقت نفسه. هي الجمعية الحرفية للصياغة وصنع المجوهرات في دمشق –والتي تُدعى اختصاراً بجمعية الصاغة في دمشق- والمعنية بإصدار التسعيرة الرسمية المحلية للذهب. ومن المفترض أنها تُحتسب هذه التسعيرة بالاستناد إلى سعر الأونصة العالمي وسعر صرف الدولار الرائج في السوق غير الرسمية، بصورة تسمح للمُشتغل في "الصاغة" أن يحقّق ربحاً معقولاً، من مهنته، إن التزم بتلك التسعيرة الرسمية. وهو ما لا يحدث. فالجمعية تعتمد سعر تصريفٍ للدولار، أقل من الرائج في السوق بفارق 300 إلى 400 ليرة لكل دولار، بصورة تجعل بائع الذهب خاسراً في حال التزامه بالتسعيرة. لكن الجمعية، التي تتكوّن أساساً من "صيّاغ ذهب"، وجدت حلاً لهذه الإشكالية على صعيد مبيع المشغولات الذهبية. وهي أجرة الصياغة، التي تركتها مفتوحة لبائع الذهب، والذي يستطيع بواسطتها تعويض الفارق بين السعر العادل للذهب وبين التسعيرة الرسمية غير العادلة. لكن نتيجة ذلك، خسارة المشتري، الذي إن عاد لبيع مشترياته من الذهب، يُفرض عليه البيع بالتسعيرة الرسمية، فيخسر فرق أجرة الصياغة، في حال استقرار سعر الذهب بين تاريخ الشراء وتاريخ المبيع. وفرق أجرة الصياغة هذا قد يصل إلى مئات آلاف، وفي أحيان، ملايين الليرات السورية، حسب وزن وعيار القطعة الذهبية المُباعة. ولأن هامش أجرة الصياغة يصبح محدوداً أكثر، وغير مجدٍ في عُرف "الصايغ"، لذا يمتنع معظم باعة الذهب عن بيع الليرات والأونصات الذهبية –ذهب الإدخار- إلا في صفقات محدودة، عامل الربح فيها مضمون لهم، كأن يتمكنوا من الاتفاق مع المشتري على البيع بسعرٍ غير السعر الرسمي، ويسجلون في الفاتورة سعراً متوافقاً مع السعر الرسمي.

هذا الإرباك الذي يحصل في عملية شراء وبيع ذهب الإدخار، هو هدف النظام من الضغط على جمعية الصاغة في دمشق، كي تفرض تسعيرة رسمية غير عادلة للذهب. فغاية النظام تضييق هوامش قدرة الفاعلين الاقتصاديين السوريين على تحويل ليراتهم إلى ذهب أو دولار، بغية ضبط سعر صرف الليرة، والحد من تراجعه. ونتيجة هذه الحالة، تراجعَ الإقبال على ذهب الإدخار بصورة ملحوظة، بإقرار مسؤولي جمعية الصاغة.

وكحال مختلف النشاطات الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام، يتدخّل هذا الأخير بصورة تُربك هذه النشاطات وتحدّ من حيويتها ومن ضوابط السوق الطبيعية لها. لذا يمكن في معظم دول العالم، البحث في إجابة لسؤال: هل نشتري الذهب الآن أم نبيعه؟ بالاستناد إلى عوامل اقتصادية وجيوسياسية. في حين تصبح الإجابة في مناطق سيطرة النظام أكثر تعقيداً، جراء عوامل إدارية تقييدية.

لكن كما أشرنا في مقدمة مقالنا. يتميّز الفاعلون الاقتصاديون في سوريا بقدرة ملحوظة على التكيّف مع التطورات المعقّدة للمشهد الاقتصادي السوري. ومن لم يتمتع بهذه القدرة خلال العشرية الفائتة، خرج أساساً من شريحة الفاعلين الاقتصاديين المحليين، أو هاجر من البلاد. أما لمن بقي في الداخل، فالخيار الأوحد، هو القدرة على الانتظار واستغلال اللحظة المواتية. في حالة الذهب مثلاً، فإن من يشتري ذهب الإدخار، يجب أن يتمتع بالقدرة على عدم البيع تحت ظروف الحاجة الآنية. عليه أن يبيع فقط، حينما يصبح رابحاً مقارنةً بصفقة الشراء الأولى، حتى مع خسارة فرق التسعيرة الرسمية عن السعر "العادل" للمعدن الأصفر. وفق هذه المعادلة، يصمد أمثال هؤلاء الفاعلين في بلدٍ يُدار بعقلية شمولية تفتقد لأدنى مقومات المنطق الاقتصادي، كسوريا.