رئيس الوزراء المصري عن أصل البيروقراطية

شادي لويس
الأربعاء   2024/09/18
البيروقراطية هي الدولة التي حولت نفسها بالفعل إلى مجتمع مدني (Getty)

في مؤتمر صحافي في الرياض قبل يومين، وقف رئيس الوزراء المصري، الدكتور مصطفي مدبولي، أمام الحضور ليعتذر عن نقل بلاده للبيروقراطية إلى السعودية. يشير مدبولي إلى أن وزير التجارة السعودي، ماجد القصبي، طالما يقول له: "كنتم بلد البيروقراطية ونقلتموها إلى المملكة في فترة ما". يقر المسؤول المصري بالتهمة، ويضيف إلى أسفه شبه الرسمي، تبريراً يلقي باللوم على الاستعمار، فبحسبه جلب البريطانيون البيروقراطية إلى مصر ووطنوها فيها خلال سبعة عقود من الاحتلال. ثم يختم اعتذاره بالتأكيد على فتح صفحة جديدة "هدفنا هذه المرة العمل على تخطي الإجراءات البيروقراطية"، وذلك في إشارة إلى غرض زيارته، الساعية إلى تشجيع الاستثمارات السعودية في مصر.

بلا شك، حملت البيروقراطية في أصلها معنى سلبياً. في فرنسا، منتصف القرن الثامن عشر، سُكّت الكلمة. شقها الأول من الفرنسية بمعنى مكتب، وشقها الثاني باليونانية يعني سلطة، لتعني تهمكاً "حكم المكتب"، وكأنها نظام للحكم كالديمقراطية والديكتاتورية، لكن لا تحكم فيه الأغلبية ولا الفرد، بل هي نظام لحكم الموظفين. بالفرنسية ولدت كلمة البيروقراطية جنباً إلى جنب مع وصمة "البيرومانيا"، أي الهوس بالإجراءات الإدارية، وجاء معها تحذير ضد تغول طبقة من الخبراء غير المنتخبين على الديمقراطية. أما في الإنكليزية، وصلت الكلمة متأخرة قليلاً حوالى مطلع القرن التاسع عشر، لتصف نظام قائم بالفعل، وبدلالات أشد سلبية. كان مصطلح البيروقراطية اصطلاح إيرلندي المنشأ، يصف سلطة الحكم البريطاني على الإيرلنديين، وترجمته الأدق في هذا السياق هي "الطغيان الإداري".

لكن البيروقراطية لم تكن دائماً مدعاة للنفور، بل فكرة ملتبسة وذات حدين. أكبر منظريها ماكس فيبر، وهو من وصفها بـ"القفص الحديدي"، وجدها أكثر النظم كفاءة لإدارة الحياة العامة: ففي تجردها من الشخصي، وتقسيمها الحاد لمجالات العمل، وتقييدها لعمليات اتخاذ القرار بالإجراءات والقواعد، وكذا بسطها لمعيار الخبرة والتأهيل على مراكز السلطة وتراتبيتها، ثمة شبكة للأمان من تغول الطبقات السياسية على سير الحياة اليومية. لكن لماركس الذي رأي في البيروقراطية ضرورة للحداثة، رأياً معاكساً توجزه مقولة شهيرة له: "الشركة هي محاولة المجتمع المدني لكي يصبح دولة؛ لكن البيروقراطية هي الدولة التي حولت نفسها بالفعل إلى مجتمع مدني".

معضلة علاقات الديمقراطية والبيروقراطية لا تزال محلاً للخلاف، إلا أن ما يعتذر عنه رئيس الوزراء المصري لا يتعلق بنزاهة نظام الحكم، بل بأمر آخر. منذ النصف الثاني من عقد السبعينيات، ومع سياسات الانفتاح الساداتية والانزياح نحو الغرب، انطلق فيض من الأعمال السينمائية والتلفزيونية بالإضافة إلى الكتابات الساخرة والكاريكاتور، الناقد بشكل حاد لدولاب عمل البيروقراطية المصرية وموظفيها. كان نظام القوى العاملة، وهو أحد بنود العقد الاجتماعي للدولة الناصرية، قد أصبح عبئاً على موازنة الدولة المتعثرة. وعالمياً، لازم تراجع الاقتصاد الكينزي في المراكز الغربية، صعود السياسات النيوليبرالية بقيادة الثنائي تاتشر-ريغان في مطلع الثمانينات. العداء تجاه" الدولة الكبيرة" ترسخ بوصفه السياسة المعتمدة لمؤسسات التمويل الدولية، وجوهر وصفاتها الإصلاحية المتمثلة في إجراءات "جز العشب"، التي طالت مخصصات الدعم الحكومي وبنود التوظيف في مؤسسات الدولة. بشكل مقصود أو غير مقصود أصبح النموذج الكوميدي للموظف المصري جزء من بروباغندا العداء لاشتراكية يوليو.

لعل ما يشير إليه الوزير السعودي، ليس عدوى البيروقراطية المصرية حقاً، بل صورتها الممسوخة في الأعمال الفنية، أو ربما ما يشير إليه هو مشاركة المصريين مع غيرهم في بناء مؤسسات الدولة الحديثة في الدول العربية في حقبة ما بعد الاستقلال، أو على الأرجح ما يقصده هو خليط من الاثنين. أما رئيس الوزراء المصري، فيوضح ما يعنيه في المؤتمر نفسه، حين يطمئن المستثمرين على حل مشكلاتهم في مصر، بالقول "كنا بناخد القرارات داخل مجلس الوزراء المصري، مش عاوز أقول بنتجاوز بس كنا بنعلو ونتخطى الإجراءات القانونية اللي كانت موجودة على الأرض".

بوضوح، يعبر الدكتور مدبولي عن رؤية الدولة المصرية اليوم لنزع البقرطة أو ما يمكن وصفه بدولة ما بعد البيروقراطية، لا بمعنى معاداة "الدولة الكبيرة" بالمعنى المتعارف عليه ، بل بالتحرر من قيد القانون.