الأب بيير ونظرية المؤامرة

سلام الكواكبي
الإثنين   2024/09/16
ملتزم بقضايا المشردين والفقراء وهو أيضًا معتدٍ على النساء ومتحرّش ومغتصب (Getty)
أطلق صرخته المشهورة في عام 1954 من القرن الماضي، وبعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك للاحتجاج على وجود المئات من البشر في المدن الفرنسية مشردين من دون سقف يحميهم، خصوصًا خلال فصل الشتاء القاسي الذي عرفته فرنسا ذاك العام. وقد عرف عنه بأنه المنتصر دائماً للفقراء وصولاً إلى تأسيسه مؤسسة "إيمايوس" الخيرية، والتي تستند في فلسفتها على تشغيل العاطلين عن العمل في إعادة تأهيل ما يمكن بيعه، لتحصيل قدرة مالية لإسكان من يمكن إسكانه من المشردين. إنه الفرنسي هنري غروي والذي اختار الاسم الديني بيير، فصار الأب بيير. وكان قد انخرط في شبابه في مقاومة الاحتلال النازي، وعُرف عنه أنه ساعد عشرات العائلات اليهودية في الهروب من الترحيل إلى معسكرات الموت النازية. وقد اعتبرته كتب التاريخ بأنه رمز للالتزام الأخلاقي، لدعوته إلى صون الكرامة الإنسانية وإلى العدالة الاجتماعية.

موقفه الأخلاقي هذا جعل منه أيقونة فرنسية في العمل الإنساني. وقد امتد تأثيره إلى عديد من الدول الأوروبية وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا. وقد كان لسنوات عدة، الرجل المفضل لدى الشعب الفرنسي، وذلك قبل كبار النجوم والسياسيين. وقد توفي الأب بيير سنة 2007. وكان لوفاته وقع عظيم على المستوى الوطني. وقد تم تشييد صرحٍ تذكاري له صار محط زيارات حاشدة لمن آمن بدوره الإنساني وقدّره. ومنذ أيام، أُغلٍق هذا الصرح بشكل نهائي وكأن القائمين عليه يوجهون رسالة إلى من يهمهم الأمر، بأن ينسوا الأب بيير. لماذا؟ لقد تم الكشف مؤخّرًا عن أكثر من عشرين شهادة لنساء تعرضن للتحرّش الجنسي أو الاعتداء الجسدي وصولاً إلى الاغتصاب من قبل "أب المشردين". وإثر ذلك، أُصيب محبيه بالذهول وشعروا بالرغبة في عدم تصديق هذا الخبر/الكابوس. وبدأت الألسن بالانحلال وبنشر التفاصيل، حيث تبيّن بأنه لم يتمتع بالأخلاق التي نادى بها أو أنه أعطى لنفسه حقًّا بانتهاك جسد المرأة كتعويضٍ عن التزامه تجاه الفقراء والمشردين.

وأظهرت التحقيقات التي قام بها بعض الإعلام الجاد كما عدد من رجال الدين، بأن الكنيسة كانت على علم بما كان قد اقترفه الأب بيير، وساعدت بالتستر عليه، حفاظًا على دوره الإنساني ودرءًا للفضيحة التي ستصيب الكنيسة، في حال اتضحت الصورة الضبابية الحقيقية لهذا الرمز الديني والأخلاقي. كما صرّح البابا فرانسوا منذ أيام بأن الفاتيكان كان لديه اطلاع على ملفات تتعلّق بتجاوزات قام بها الأب بيير، وذلك منذ سنوات بعيدة.

منذ الإعلان عن هذا الخبر الصاعق، حفلت وسائل الاعلام بالتحقيقات وبالدراسات المرتبطة بهذا الجانب المظلم من شخصية من اقترب المؤمنون يومًا على الاعتقاد بأنه قدّيس. وتوصّلت الآراء على اعتبار أن الخطيئة ليست فردية وليست مرتبطة بالأب بيير فحسب، بل بمنظومة أخلاقية/ دينية/ اجتماعية معقّدة. واسترجعت عديد من الأقلام إشكالية الزواج أو عدمه في إطار المؤسسة الكنسية، لكنها أجمعت على أن تصرفات الأب بيير غير الأخلاقية ليست محصورة بقاعدة الامتناع عن الزواج عند رجال الدين الكاثوليك فحسب، بل هي مؤشّر على جانب مظلم غالبًا ما يتوفّر لدى الكثيرين، وخصوصًا لدى من يتصدرون المشهد الأخلاقي.

فجأة، رمى أحدهم بخاطرة سريعة الزوال على وسائل التواصل الاجتماعي، مفادها أن ما يجري من فضح لتاريخٍ قاتم عبر من خلاله الأب بيير، ما هو إلا مؤامرة صهيونية ضد هذا الرجل الرمز، وذلك استنادًا لتصريحات له فيما يتعلق بنشوء دولة إسرائيل وبحقوق الشعب الفلسطيني. وكمن رمى عود ثقابٍ في كتلة من الشعير الجاف، فقد اشتعلت صفحات عرب ومسلمين بهذا الخبر الذي ربما كتبه صاحبه مازحًا.

في بداية نشر الفضيحة عن أخلاقيات الأب بيير، كان من السهل للمتابع أن يقع ضحية لمثل نظرية المؤامرة هذه والتي يمكن لها أن تستقطب النفوس المتعطشة لتبريرات منحرفة. ولكن، وبعد أن انتشرت معلومات تفصيلية عن تجاوزات الأب بيير الجنسية، كما وبعد أن أُجريت مقابلات شخصية مع بعض من ضحاياه، فقد صار تصديق نظرية المؤامرة هذه دليلاً إضافيًا على محدودية العقل البشري واستعداده الدائم لتلقف الأكاذيب التي تملأ عقد النقص لديه والمرتبطة بالمحاكمة العقلانية والموضوعية لأحداث بعينها من دون ربطها التلقائي بمؤامرات تُحاك من هذا الطرف أو ذاك.

من المؤكّد بأن الأب بيير، وفي جانبه الأخلاقي المضيء، كان قد أبلى بلاءً حسنًا في سعيه لإسكان المشردين وفي انخراطه في العمل الإنساني المرتبط بالفقراء. بالمقابل، فإن الإشارة إلى تجاوزاته غير الأخلاقية تجاه المرأة، وذلك بالاستناد إلى شهود عيان من الضحايا أنفسهن، إضافة إلى تقارير الكنيسة كما الفاتيكان المتعلقة بتصرفاته التي تنمُّ عن مرض نفسي استمر طوال عقود، هي مثبتة وربما أفصحت الأيام المقبلة عن تفاصيل أكثر هولاً مما هو متاحٌ الآن.

لا يفيد القضايا العادلة، كالقضية الفلسطينية، الترويج لشائعات تدفع الآخر لرسم ابتسامة سخرية على فمه، مستهزئًا بهذا النضال الذي يعتمد على "شائعة سخيفة". إن الأب بيير هو إنسان حسّاس وملتزم بقضايا المشردين والفقراء. كما أنه مؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني بصراحة وشجاعة. وأخيرًا، فهو أيضًا معتدٍ على النساء ومتحرّش ومغتصب. لا يوجد ما يمنع من اجتماع كل هذه الصفات وسواها لدى الانسان.