بين "المولات" والخيام المهترئة.. صور الشمال السوري المتناقضة

محمد كساح
الأحد   2024/09/01
من مخيمات الشمال السوري (Getty)
تأتي الصور والفيديوهات التي يبثها نشطاء وسكان من الشمال السوري، المضخمة لحالة الانتعاش الاستثماري الخجول التي تعيشها المنطقة، بمثابة انعكاس للبروباغندا التي تحاول سلطات المنطقة تكريسها، على اعتبار أن افتتاح الطرقات وبناء المولات التجارية والمطاعم والدوارات وترميم الملاعب، نماذج لمنجزات الثورة، بغض النظر عن مقاييس أخرى يفترض أن الثورة خرجت من أجلها مثل الحريات العامة والتعددية السياسية والرفاه المعيشي.
وتزدحم مواقع التواصل بعشرات الفيديوهات والصور التي ينشرها نشطاء إعلاميون، يركزون على مبان من عدة طوابق، ودوارات وطرقات مرصوفة. ويعكس هذا المحتوى الذي يحمل صورة جذابة وحضارية للمنطقة، ويجذب ملايين المشاهدات.
لكن نشطاء وسكان من المنطقة، يرون أن هذه الصورة لا تعكس الصورة الحقيقية، ويقولون إن جوهر المشكلة فيها يتمثل في صيغة المبالغة التي تقدم من خلالها هذه الصورة، فهي اجتزاء للمشهد الذي يفترض أن يكشف في حالته الحقيقية مولاً تجارياً إلى جانبه عشرات المخيمات، أو سيارات أوروبية يكثر تعدادها بقدر ما يكثر عدد الأطفال المتسربين مدرسياً.

تفخيم وتضليل
"نحنا حالياً مالنا بسويسرا.. نحنا حالياً في مدينة اعزاز وتحديداً قدام فندق سويسرا"، بهذه الجملة يستهل أحد الشبان فيديو تسويقي لفندق جديد في مدينة أعزاز. تسير الكاميرا في مبنى طابقي بسيط لا يختلف عن معظم المباني المنشأة في المنطقة: صالة استقبال متواضعة، وإطلالة عادية، وغرف مجهزة بأثاث عادي جداً. 
وفي فيديو آخر يروج لما يسمى "إدلب الجديدة"، يركز ناشره على بعض المنشآت التي تم بناؤها أو ترميمها خلال السنوات السابقة، مثل "نورث كافيه" وهو متجر صغير لبيع القهوة، مصمم على شكل فنجان قهوة، ودوار سرمدا، والحديقة العامة في إدلب وهي مضاءة بألوان زاهية ليلاً.
ويبدو تأثر مصور اللقطات بمنجزات سكان المنطقة واضحاً. إذ لا يقل عدد الدوارات التي تظهر في المقطع عن 7 دوارات، كانت الوسائل الإعلامية الرديفة بما فيها حسابات شخصيات جهادية مثل حساب "أبو مارية القحطاني" في "تلغرام"، قد ساهمت في الترويج لها كجزء من المنجزات الثورية.
بينما يعيدنا فيديو ثالث بعنوان "أجواء الخليج في إدلب" إلى مقهى "نورث كافيه" مجدداً، ثم يمر نحو سوق الذهب، وصولاً إلى "مول الحمرا" الذي طالما أثار الجدل في العام الماضي لدرجة تجرؤ أحد المقاتلين الأجانب على استهدافه بالرصاص تحت ذريعة "الاختلاط والمحرمات".
وفي معظم الفيديوهات التي تنشر على السوشال ميديا للمنطقة، تتكرر النماذج نفسها والمنشآت والدوارات والمطاعم، لكن العبارات التي تصفها تختلف قليلاً، بين إدلب الخليجية وإدلب الأوروبية وإدلب الجديدة، في مبالغة غير محسوبة من قبل أشخاص شبه محاصرين في منطقة معدومة الموارد، ويستند واقعها الخدمي والمعيشي على الجانب التركي.

ما هي الصورة الحقيقية؟ 
في المقابل، تواجه هذه الصورة بمحتوى أكثر واقعية يحاول استعادة البوصلة الإعلامية وعدم الوقوع في فخّ التضليل والترويج لـ"الحكومات" شبه العاجزة التي تدير المنطقة، حيث باتت تنتشر مقاطع لنشطاء تظهر صورة مغايرة تتمثل بعشرات آلاف الخيام وتخبر عن الحياة الحقيقية في الشمال السوري، وهذه المقاطع تعكس تباين صورة الشمال السوري في "السوشال ميديا" بين بروباغندا السلطة والنشطاء المقربين منها والواقع الحقيقي.
والحال أن الكادر الذي يركز على الأجزاء المميزة من الواقع، يتناسى الفضاء الأعم الذي تعيش فيه، وهو الفضاء الذي تصل فيه البطالة إلى أرقام خيالية لا تقل عن 85%، مع وجود عشرات آلاف الأشخاص في الخيام، ومستوى أجور متدن، لدرجة أن أجر عامل المياومة عن 10 ساعات عمل لا يمكنه من تناول أرخص وجبة في أحد مطاعم إدلب أو أعزاز.
ويمكن القول إن تباين الصورة ناتج عن انقسام المجتمع في الشمال السوري إلى طبقتين، الوسطى التي كانت موجودة سابقاً في سوريا، والتي تحولت إلى طبقة شبه معدمة وهي الغالبية العظمى، والطبقة الغنية وهي لا تشكل أكثر من 12%. وهذه الطبقة تتقاطع مصالحها غالباً مع السلطات المحلية التي تتعامل مع رؤوس الأموال فقط، وتريد منح هذه الطبقة أماكن ترفيه وتسوق، بحسب حديث الناشط فايز الدغيم لـ"المدن".
ويرى الدغيم أن "نسبة كبيرة من المشاريع المقامة عبارة عن تبييض أموال، بالموازاة مع كونها تعطي انطباعاً للخارج بأن منطقة الشمال الغربي منطقة متحضرة ومتفوقة على الكانتونات السورية الأخرى"، مؤكداً أن "الترندات التي تظهر كل فترة حول المنطقة وازدهارها لا تعبر عن الصورة الحقيقية، بل هي غالباً تتسبب بآلام إضافية للطبقة المعدمة عندما يخرج أفرادها من الخيام ويتجولون في المولات".
وتنعكس هذه الصورة المزيفة على حياة المواطنين، ومشاعرهم، بقدر ما تؤثر سلباً على الجانب الإغاثي، حيث يوضح الدغيم أن "إظهار المنطقة بهذه الصورة من دون العناية بإخراج الجوانب الأخرى إلى العلن، بمثابة رسالة للمجتمع الدولي بأن المنطقة ليست في حاجة ماسة إلى التمويل الدولي، بعكس المناطق الأخرى مثل تلك التي يسيطر عليها النظام والتي لا تتوفر فيها الكهرباء على سبيل المثال، بعكس مناطق الشمال".