القضاء السوري يلاحق نضال الأحمدية: "هيبة الدولة" مجروحة!

وليد بركسية
الثلاثاء   2024/09/17
بتهمة "النَّيل من هيبة الدولة السورية"، تحرك القضاء السوري "النزيه والمنصف والعادل" لملاحقة الإعلامية اللبنانية نضال الأحمدية، بعدما أصدرت محكمة الجنايات الأولى في دمشق، حكماً غيابياً بحقها، بالسجن 5 سنوات مع غرامة مالية قدرها 10 ملايين ليرة سورية، والزامها بدفع مبلغ مليار ليرة سورية للجهة المدعية لتعويض الضرر المادي والمعنوي، تضمينها الرسوم والمجهود الحربي، بحسب وسائل إعلام محلية.

تعود القضية إلى حزيران/يونيو 2023 ورفعها المحامي فادي عدنان رحال، الذي تصفه وسائل إعلام معارضة بـ"المقرب من النظام السوري"، إثر تصريحات الأحمدية حينها بشأن اللاجئين السوريين. وكانت الأحمدية (60 عاماً) هاجمت السوريين مجدداً خلال مقابلة مع إذاعة محلية، وقالت فيها أنها طلبت في إحدى المرات "شوكولامو" من موظف سوري، لكنه لم يعرف ما هو، ما أثار استغراب الأحمدية التي ردت عليه بعدم وجود مرادف عربي لهذه الكلمة لتشرح طلبها. وأكملت بأن "اللاجئ السوري لم يعرف المطلوب منه لأنه يرفض تعلم اللهجة اللبنانية التي تحتوي على المرادفة المذكورة، لأن لبنان بالنسبة له محافظة تابعة لسوريا".

وفي ذلك الوقت، هاجم عشرات المغردين، تصريحات الأحمدية معتبرين أنها من أكثر الشخصيات التي تسيء لصورة لبنان في العالم العربي، لكن الأمر اتخذ منحى أكثر حدة بين السوريين الذين امتلأت صفحاتهم بصور الشوكولا، كردٍّ على العنصرية ضدهم، وظهرت موجة من الاعتزاز بالهوية الوطنية السورية ومشاعر القومية الوطنية في عشرات المنشورات في "فايسبوك" و"تويتر"، بما في ذلك من شخصيات عامة وفنانين.

كان ذلك حاضراً بين الموالين والمعارضين لنظام الأسد على حد سواء، في مشهد وحدة نادر في البلاد الممزقة بفعل الثورة التي انقلبت حرباً خلفت أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية بحسب الأمم المتحدة. لكن النقاش المتشنج أخذ صورة الرد على الشتيمة بشتيمة مضادة، مع تصدير عنصرية عكسية في بعض الأحيان، من باب الحديث عن تفوق السوريين تاريخياً على بقية الشعوب العربية.

ودخول النظام السوري بشكل الجهاز القضائي، اليوم، على خط ذلك النقاش الشعبوي، هو محاولة من النظام للقول أنه يهتم بنبض الشارع ويدافع عن السوريين في كل مكان في وجه الإساءة، مع تغليف تلك الإساءة بأنها موجهة إلى "هيبة الدولة" تحديداً، لا مشاعر السوريين أنفسهم كأفراد، رغم أن السلطة الحاكمة هي المسؤولة الأولى والأخيرة في الواقع عن "وهن نفسية الأمة" بمعنى تحطيم نفسية السوريين لإخضاعهم، عبر إبقائهم مشغولين بالحاجات الأساسية، مع ترهيبهم الدائم بشتى الطرق.

والتهمة الموجهة للأحمدية، لاحقت عدداً لا يحصى من السوريين بما في ذلك الموالين للنظام في السنوات الأخيرة، ممن تجرأوا على كتابة منشور في "فايسبوك" مثلاً اشتكوا فيه من الظلام بسبب انقطاع الكهرباء المستمر، لا أكثر. وترد التهمة في النصوص القانونية كذريعة يعتقل بها النظام ويلاحق كل من يخالفه في الرأي، ويعرفها كل من عاش في سوريا أو شاهد مسلسلاً سورياً أو عرف عن البلاد قليلاً من المعلومات، كونها عنصراً ثابتاً في الحياة السورية منذ عقود.

وبالطبع لا يمكن تصديق أن النظام بات يهتم فجأة بمشاعر السوريين، عند النظر إلى مشاهد الانهيار الاجتماعي والاقتصادي اليومية، كمشاهدة العائلات السورية تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة يومياً بسبب انعدام الأمن الغذائي الذي يطاول أكثر من 60% من السوريين، فكانت استجابة النظام السوري له العام 2021 هي وقف برامج الطبخ في التلفزيون الرسمي بتوجيهات من الرئيس الأسد حينها.

والنظام السوري، بتجاهله الواقع اليومي وتركيزه على الرمزيات، يظهر كسلطة باتت تافهة حتى في المواضيع التي تلتفت إليها، لأن تصريحات الأحمدية، رغم أنها عنصرية ومروعة، تستفز السلطة القضائية وجموع الفنانين الموالين والإعلاميين الرسميين وغيرهم، بسبب اهتمام شريحة واسعة من السوريين الموالين بها، فقط، وليس لأنها تصريحات عنصرية ضد اللاجئين الذين هربوا أصلاً من عنف النظام السوري الذي استخدم سياسة الأرض المحروقة ضدهم بعد ثورة 2011، والذين يتم تأطيرهم كمجرمين أو كمغرر بهم وكورقة سياسية يتلاعب بها الغرب للضغط على دمشق، في أفضل الأحوال، سواء في الشاشات الرسمية أو في خطابات الرئيس الأسد شخصياً.

وفيما لا يمكن الدفاع عن الأحمدية بأي حال من الأحوال، لا يمكن سوى التساؤل بسخرية: "هل تتوقف كرامة الدولة السورية حقاً عند كلمات صحافية لبنانية مشهورة بتفاهتها، أو على الحياة المكسورة للملايين من مواطنيها؟". كما يتساءل المتلقي إن كان سبب القرار القضائي والدعوى القضائية من أساسها، هو حديث الأحمدية في ذلك الوقت عن الأسد الذي رأت أنه "يرفض" إعادة اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلادهم، واصفة ذلك بأنه قرار محق لأن أولئك السوريين متخلفون، خصوصاً أن "السيادة السورية" لم تشعر بأي إحراج رغم أن عنصرية الأحمدية كانت حاضرة ضد السوريين بالمستوى نفسه منذ بداية الثورة في البلاد، ما يعني أن كرامة البلاد مرهونة بشخص الرئيس، لا أكثر.

والمدافعون عن الأحمدية مراراً وتكراراً، مثل الممثلة المقربة من النظام سلاف فواخرجي التي تظهر باستمرار إلى جانب أسماء الأسد زوجة الرئيس، يرون أن تقديم العنصرية ضد السوريين وغيرهم، ليس أكثر من وجهة نظر يجب احترامها من باب التعددية الفكرية! رغم أن العنصرية نفسها جريمة، لو حدثت في دول متحضرة تحكمها القوانين، لكانت هناك عواقب تبدأ بالمقاطعة وتنتهي في قاعات المحاكم التي تبحث عن العدالة وليس عن الاستعراض السياسي وتقديم الدعاية الرسمية.

والأكثر إثارة للسخرية، أن الموالين الأكثر راديكالية، يرفضون حتى فكرة الاهتمام بقضية العنصرية في سوريا أو بخصوص السوريين، لأنها جزء من مشروع أكبر لـ"مسخ دورها وتقزيم معاركها وأعدائها لغايات لم تعد مبيَّتة"، على اعتبار أن قدر سوريا هو "أن تحمل القضايا الكبرى وتصنع التاريخ وتملأ دورها وحضورها في كل حقبة"، حسب تعبير المستشار السابق في وزارة الإعلام، مضر إبراهيم.

بعكس ذلك، لا يستفز النظام ولا يتحرك لإحداث تغيير جدي في سياساته بشكل يضمن الكرامة والحياة الطبيعية ولو بالحد الأدنى لشعبه. كما لا تخدش الصور ومقاطع الفيديو للفقراء واللاجئين والمحرومين، ولا التقارير عن الأزمات المعيشية والخدمية وغيرها، هيبة الدولة السورية المفترضة، ولا تَصدُّر البلاد لوائحَ البؤس المختلفة حول العالم وتحول الدولة إلى اقتصاد المخدرات، مع حقيقة أن أكثر من 90% من السوريين في الداخل يعيشون تحت خط الفقر. فكل تلك المعلومات وغيرها، بالنسبة للنظام، ليست أكثر من "أخبار مزيفة" و"ضخ مسعور" من قبل "الدول المعادية" لاستكمال "المؤامرة الكونية" على سوريا بسبب "مواقفها السياسية المبدئية"!

لا يعني ذلك بالطبع أن التصريحات العنصرية ضد السوريين تافهة، بل هي مشكلة حقيقية خصوصاً في دول مثل لبنان وتركيا، وتستوجب كثيراً من التحركات الرسمية لوقفها، لكن سلطة مثل نظام الأسد، هي آخر من يحق له الحديث عنها أو عن تمثيل السوريين، لأنه حتى في لغته الرسمية لا يمثل إلا نفسه، كما يظهر في قرار المحكمة. علماً أن "المرصد السوري لحقوق الإنسان" دعا المجتمع الدولي في وقت سابق لـ"حماية اللاجئين السوريين من تصاعد الخطاب العنصري ضدهم في لبنان، مما يعرض حياتهم للخطر ولا يستبعد ارتكاب جرائم بحقهم من قبل بعض العنصريين بلبنان"، فيما تبقى سوريا أصلاً دولة غير آمنة لعودة اللاجئين بحسب تقارير حقوقية وأممية وتقييمات للاتحاد الأوروبي.

وفيما يصل عدد اللاجئين السوريين في المجمل إلى أكثر من 12 مليون شخص، أي أكثر من نصف عدد السوريين قبل الثورة في البلاد العام 2011، يوجد منهم نحو 6 ملايين نازح داخل البلاد، وتتوزع البقية في دول اللجوء، وغالبيتهم في الدول المجاورة لسوريا، كلبنان وتركيا والأردن، حيث يواجهون خطاب العنصرية والقرارات التمييزية والحياة في المخيمات وغيرها من الظروف المأسوية. ويعاني لبنان تحديداً أزمة اقتصادية حادة، ويرى لبنانيون كثر أنّ وجود اللاجئين يحمّل الاقتصاد عبئاً إضافياً، لكن الحال أن أزمات البلاد الاقتصادية قديمة وعميقة وتأتي بالدرجة الأولى من فساد الطبقة السياسية الحاكمة على مدى عقود.

وفيما يصدر النظام اليوم مصطلحات مثل "الهيبة" و"السيادة الوطنية"، فإن السلطة التي مارست جرائم حرب وانتهاكات لحقوق إنسان ودمرت مدناً كاملة لأكثر من 13 عاماً، تكشف اليوم عن هشاشة حقيقية، لأن الاهتمام المفاجئ بكلمات صحافيين في لبنان، مهما كانت طبيعتها، تشكل مفارقة لدولة توقفت بالفعل عن الوجود وباتت كياناً ميتاً بفعل الواقع السياسي الذي جزّأ البلاد إلى كانتونات متصارعة لا يمتلك أي منها القدرة على توحيد سوريا القديمة وحكمها، فيما تنتشر الميليشيات وينهار الاقتصاد الذي بات يعتمد على المخدرات للصمود.

ومن المضحك فعلاً أن هيبة تلك الدولة تتأثر بالإهانات الرمزية، أكثر من الجروح الحقيقية والعميقة لمواطنيها، ما يعني أن السلطة مهووسة فقط بالسيطرة على السردية العامة وتعمل على صرف الانتباه عن معاناة الملايين بشكل ممنهج، ليس فقط ما يخص الحرب بل الحياة اليومية للسوريين. وذلك دليل على اليأس، لا على فائض القوة.