الغرب الذي سرق الأولمبياد من سوريا!
وأكثر ما يثير السخرية في نظرة النظام السوري للألعاب الأولمبية هذه، سواء الحالية في باريس أو الدورات الماضية، هو تصدير صورة للنظام لا يمكن تصديقها، وهي أنه ليس فقط رأس دولة حضارية منفتحة على العالم، بل أيضاً الضحية التي عانت ظلماً تاريخياً يتجاوز عدد سنوات وجوده أصلاً.
وطوال مشاركاتها في الألعاب الأولمبية، كان حضور سوريا خجولاً، ليس فقط من ناحية النتائج، بل أيضاً من ناحية عدد الرياضيين المشاركين، حتى بالمقارنة مع لبنان، الدولة المجاورة الأصغر حجماً والتي تعاني بدورها. فبعد سيطرة عائلة الأسد على السلطة بانقلاب عسكري العام 1970، بات وضع الرياضة عموماً أسوأ في البلاد، ولو أطلق الرئيس السابق حافظ الأسد على نفسه لقب "راعي الرياضة والرياضيين" الذي ورثه ابنه بشار عندما ورث الرئاسة أيضاً العام 2000.
وشاركت سوريا في الألعاب الأولمبية مباشرة بعد الاستقلال في دورة ألعاب لندن 1948، برياضي واحد هو الغطاس زياد شربجي، وغابت عن دورتي هلسينكي 1952 وقاطعت دورات ملبورن 1956 لأسباب سياسية متعلقة بحرب العام 1956، وطوكيو 1964 ومونتريال 1976 احتجاجاً على مشاركة رياضيين من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حينها، بحسب مجلة "تايم" الأميركية، قبل أن تنتظم مشاركات البلاد في الأولمبياد منذ العام 1980.
وحققت سوريا عبر مشاركاتها في المسابقات الأولمبية أربع ميداليات متنوعة، الأولى العام 1984 في أولمبياد لوس أنجلوس، عندما حقق المصارع جوزيف عطية الميدالية الفضية، بينما نالت غادة شعاع الميدالية الذهبية في أولمبياد أتلاتنا 1996 في ألعاب القوى، وحصل الملاكم ناصر الشامي على برونزية أولمبياد أثينا 2004، فيما كانت الميدالية الأخيرة من نصيب الرباع (رافع الأثقال) معن أسعد الذي نال برونزية أولمبياد طوكيو 2021.
وقصة عطية بالتحديد مثيرة للاهتمام، لأنه رياضي عاش معظم حياته في الولايات المتحدة، حيث درس وتدرب وتنافس، قبل أن يتلقى دعوة لتمثيل سوريا في أولمبياد لوس أنجلوس، وتم استغلاله كثيراً في الإعلام الرسمي بعد الثورة السورية للقول أنه يمثل المغترب السوري الجيد بعكس اللاجئين السوريين الذين يوصفون بأنهم عملاء وخونة. علماً أن اللاعب المولود العام 1957 عبّر مراراً في لقاءات إعلامية عن "عشقه لتراب الوطن ومحبته الكبيرة لقائد الوطن السيد الرئيس بشار الأسد ووالده القائد المؤسس الرئيس حافظ الأسد الذي كرّمه أحسن تكريم ومنحة وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديرا لإنجازه الأولمبي"، فيما أطلق على ابنه اسم "جوزيف أسد"!
وطوال العقود الخمسة الماضية، كان النظام السوري إعلامياً ودبلوماسياً، يصدر صورة عن المشاركة في الأولمبياد كتلك التي يصدرها عن المشاركة في الانتخابات المحلية التي تعقد بانتظام على المستوى التشريعي والرئاسي والمحلي، من أجل خلق وهم بوجود ديموقراطية في البلاد، تصبح فيها المشاركة هي الغاية، أما النتيجة فثانوية، لأن المشاركة في الفعاليتين على اختلافهما، تأكيد على هيكلية مؤسساتية ضمن النظام نفسه وتسويق لوجوده.
وليس غريباً بالتالي أن تتشابه المفردات التي يستعملها الإعلام الرسمي لوصف الانتخابات أو الألعاب الأولمبية. فالأولى هي "العرس الوطني الكبير" والثانية هي "العرس الرياضي الكبير" مثلما كان يهتف معلق التلفزيون السوري جوزيف بشور، وزملاؤه، على الشاشات طوال عقود.
زادت حدة تلك النبرة بعد الثورة في البلاد العام 2011، وظهور رياضيين سوريين في فريق اللاجئين على سبيل المثال، وظهور علم سوري بديل يرفعه المعارضون. وعليه باتت المشاركة واجباً مقدساً بحد ذاته، لتأكيد الهوية الشرعية للنظام في سوريا، وهو ما تكرر اليوم في أولمبياد باريس، إذ احتفى الإعلام الرسمي برفع العلم السوري في العاصمة الفرنسية بوصفها واحدة من "عواصم الأعداء" وركناً من أركان "المؤامرة الكونية".
في السابق، كانت المشاركة مهمة أيضاً كطريقة لإظهار الهوية الوطنية في بلد ممزق بين الطوائف ويتلاعب فيه النظام بين المكونات العرقية والدينية بوضعها في حرب وجودية بعضها ضد بعض. كما أن المشاركة نفسها كانت بمثابة رسائل للشعب السوري يزعم فيها النظام المنغلق على نفسه، بأنه جزء من المجتمع الدولي وليس منبوذاً كما هو واقع الحال، ما يجعل النتائج مسألة ثانوية. وتحقيق تلك النتائج من قبل أفراد تدربوا في أسوأ الظروف الممكنة، ومن دون رعاية أو اهتمام، وفي بيئة رياضية شبه منعدمة، يُستغل من طرف السلطة للقول أنها صاحبة الفضل عليهم في ما وصلوا إليه من مجد ينسب أولاً وأخيراً لـ"الوطن" و"قائد الوطن".
ويعمل النظام السوري على الاستفادة من الرياضة، وغيرها من النشاطات الجماهيرية من أجل بث دعاية سياسية تصور "الدولة السورية" منتصرة ومتحضرة مثل الدول الغربية، لكن الألعاب الأولمبية كل 4 أعوام تأتي لتذكر بمدى ضحالة تلك الكذبة. هذا العام مثلاً، خرج نصف بعثة النظام السوري إلى باريس بسرعة من المنافسات، فيما حمل الفارس السوري أحمد حمشو علم بلاده في حفلة الافتتاح، رغم أنه نموذج واضح للفساد المستشري في سوريا في كافة مجالات الحياة، بما فيها الرياضة. فالرياضي البالغ من العمر 33 عاماً، هو رجل أعمال مقرب من النظام وخاضع للعقوبات الاقتصادية الأميركية منذ حزيران/يونيو 2020 بموجب قانون "قيصر"، وابن رجل الأعمال محمد حمشو الخاضع للعقوبات الأميركية من آب/أغسطس 2011.
ومن بين كل رياضات العالم، يعطي نظام الأسد اهتماماً مبالغاً فيه للفروسية باعتبارها كانت "لعبة النبلاء" التي نافس فيها باسل الأسد، شقيق الرئيس بشار الأسد الذي قتل في حادث سير غامض العام 1994. وفيما كان أحد ألقابه "الرائد الركن المظلي الفارس"، يقول ناشطون سوريون أنه سَجَن البطل السوري عدنان قصار العام 1993 لأنه تفوق عليه في إحدى بطولات الفروسية، ولم ينل القصار حريته إلا بعد 21 عاماً. وبعد وفاة "الفارس المظلي" بقيت الفروسية لعبة تحتكرها عائلة الأسد. فمنال الأسد، زوجة ماهر الأسد، هي "الرئيسة الفخرية" لاتحاد الفروسية في سوريا، وتمتلك فريقاً للفروسية يشارك في البطولات، إسمه "Team Spirit"، ولا يمكن نسيان صورة التقطت العام 2019 وتظهر فوز ابنتها شام الأسد بالمركزين الأول والثاني معاً في إحدى البطولات المحلية!
وبالطبع لا نتائج تُذكر في الفروسية رغم تكرار مشاركة لاعبي النظام في تلك الرياضة الأولمبية. كما لا نتائج أو مشاركات في ميدان الرياضات الجماعية، باستثناء مشاركة منتخب سوريا لكرة القدم في أولمبياد موسكو 1980، والتي أتت لتعويض مقاطعة الدول الغربية في ذلك الوقت للأولمبياد في ذروة الحرب الباردة. وبالنظر إلى تاريخ الرياضة الاحترافية في سوريا ككل، لا نجاح يُذكر تقريباً على مستوى الرياضات الجماعية، باستثناء ربما فوز فريق "الوحدة" الدمشقي بـ"كأس أبطال آسيا" لكرة السلة 2003، مقابل إنجازات أكثر في ميدان الرياضات الفردية. لكن الاهتمام الإعلامي في البلاد ينصب تحديداً على الرياضات الجماعية، ما يثير استياء الأبطال الأولمبيين القلائل في تصريحات صحافية مثل غادة شعاع.
أما الصالات البدائية والملاعب، التي تحولت بعد الحرب إلى ثكنات عسكرية، مضافة إلى انعدام الدعم المادي وانتشار الفقر وتبخر الخدمات من كهرباء ومياه واتصالات، فتترك الرياضيين في ظروف أسوأ من أي وقت مضى، خصوصاً مع انتشار العسكرة والتجنيد في المجتمع السوري. ويصبح نجاح أولئك الأفراد على الصعيد الأولمبي، قبل الثورة وبعدها (فالظروف العامة لم تتغير)، مبهراً بالنظر إلى البيئة التي أتوا منها، وأياً كانت طبيعة الاستغلال الرسمي لهم.
لكن ذلك لا يُترجم إلى إحساس بالوحدة بين السوريين اليوم، لأن الحرب والثورة أفضيتا إلى شرخ كبير في المجتمع السوري يمكن وصفه بشكل فضفاض بمعسكرَي الموالاة والمعارضة اللذين يقدم الراديكاليون في كل منهما خطاباً يخوّن الطرف الآخر ويشمت به أو يقلل من إنجازاته. وفيما تنتشر سردية رومانسية في وسائل الإعلام العالمية عن رمزية المشاركة السورية التي تنشر الفرح بين الناس، فإن ذلك ليس دقيقاً بالنظر إلى الانقسام الحالي وعدم التوصل إلى حل سياسي في البلاد التي تعيش اليوم نزاعاً مجمداً خسر فيه الجميع وتشارك الناجون الخراب.