اليمين الفرنسي المتطرف: "تغيَّر".. وعنصريته باقية وتتمدد!
في العام 2016 أعلن زعيم تنظيم "جبهة النصرة" في سوريا، أبو محمد الجولاني، فك ارتباطه بتنظيم "القاعدة" منظماً صفوفه تحت اسم "هيئة تحرير الشام" التي حاولت مراراً وتكراراً غسل صورتها كتنظيم جهادي عبر لقاءات مع الإعلام الغربي، الأميركي تحديداً، بالبزات الرسمية بدلاً من "ملابس المجاهدين". وبشكل مماثل، حاولت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان، تغيير صورة حزبها ذي الأصول الفاشية العام 2018 بتغيير اسمه من "الجبهة الوطنية" إلى "التجمع الوطني" وطرد والدها جان ماري لوبان، فيما حاولت فك ارتباط حزبها بالماضي الأسود العنصري الذي بني عليه.
وكما فشلت "هيئة تحرير الشام" في التغيير فعلياً، فإن حزب "التجمع الوطني" الذي حقق أفضل نتيجة له في الانتخابات الأوروبية ثم البرلمانية في فرنسا، لم يتغير إلا في الشكل، لأن إعادة التموضع لا تعني إلغاء التطرف، حيث مازالت العنصرية الممنهجة وعقيدة تفوق العرق الأبيض موجودة في صميم سياساته التي يعبر عنها بشعار "التفضيل الوطني" الذي يرتقي إلى مستوى الدعوة إلى نظام الفصل العنصري "Apartheid" بحسب تعبير صحيفة "لومانيتي" الشيوعية الفرنسية.
وفي مواقع التواصل يمكن ملاحظة الخوف والقلق والدعوات للتحدي من وسائل الإعلام وناشطين وأفراد عاديين، كما هو الحال في الشوارع التي تشهد احتجاجات ضد صعود اليمين المتطرف. لكن ذلك الخوف بالتحديد هو المحرك الأساسي للسياسة التي أوصلت بالأساس الرئيس إيمانويل ماكرون للسلطة الذي حل البرلمان بشكل مفاجئ لدرجة وصفتها مجلة "إيكونوميست" البريطانية العريقة بأنها أسوأ خطوة انتحارية لسياسي فرنسي منذ معركة واترلو العام 1815 التي أدت فعلياً لنهاية عهد الإمبراطور نابليون بونابرت.
وبرز ماكرون قائداً ملهماً لفترة وجيزة في المخيلة الشعبية عند وصوله إلى قصر الأليزيه العام 2017، خصوصاً أنه كان اسماً يجسد السياسة الجديدة بعيداً من الأحزاب التقليدية مع فقدان الشعب الفرنسي ثقته في التيارين الرئيسيين اليميني واليساري بعد ضعف أداء الرئيسين اليميني نيكولا ساركوزي (2007 - 2012)، واليساري فرانسوا هولاند (2012-2017). لكن ذلك الإعجاب ما زال جدلياً، إذ صوّت لماكرون 20 مليون ناخب، في مقابل 10 ملايين صوتوا لمنافسته مارين لوبان، وامتنع 16 مليوناً آخرين عن التصويت بطريقة أو بأخرى، وزاد الأمر سوءاً في انتخابات العام 2022، ويعني ذلك مجتمعاً منقسماً أكثر من أي وقت مضى بشكل يعاكس شعار حملته الانتخابية حينها "نتجمع" (coming together).
والخوف الذي يحرك الفرنسيين اليوم في صناديق الانتخابات ومواقع التواصل، كان الأساس للسياسة الماكرونية طوال السنوات السبع الماضية في كل استحقاق انتخابي، لأن ماكرون كان يطرح نفسه كحل وحيد أمام تطرف اليمين وتطرف اليسار في البلاد، بما في ذلك حله للبرلمان بشكل مفاجئ.
والصعود المستمر لليمين المتطرف الفرنسي في السياسة الفرنسية يتوازى مع تصاعده في كافة أنحاء العالم الغربي، من الولايات المتحدة حيث وصل شخص مثل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بالفعل ويحاول العودة إليه اليوم، إلى دول أوروبية مثل المجر وبولندا وألمانيا حيث حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وصولاً إلى إيطاليا التي يحكمها اليوم حزب "أخوة إيطاليا" الذي يضم أحفاد الديكتاتور بينتيو موسوليني. وكل تلك الدول شهدت تجمعات نازية وأعمال عنف قائمة من مجموعات متطرفة أو محظورة، بعضها مسلح وخطير، وكلها مشاهد تتم إعادة تدويرها في مواقع التواصل للتحذير من أن ذلك سيتمدد نحو فرنسا، إذ ما حَكَم اليمين المتطرف.
وشارك في تأسيس حزب "التجمع الوطني" إلى جانب جان مارين لوبان، كل من بيير بوسكيه، أحد أعضاء تنظيم قوات الحماية المسلحة " فافن إس إس" التابعة لفرقة شارلومان، وجنود فرنسيين آخرين كانوا يرتدون الزي العسكري النازي شاركوا في عملية الدفاع عن مدينة برلين العام 1945. ورافقهم في التجربة السياسية ليون غولتيه، أحد المؤسسين الآخرين للحزب اليميني المتطرف الذي كان عضواً في تنظيم قوات الحماية المسلحة " فافن إس إس" إضافة إلى الصحافي فرانسوا برينيو الذي شغل منصب نائب رئيس الجبهة الوطنية وقتها وكان عضواً في ميليشيات المارشال بيتان الموالي للنازيين، بحسب وسائل إعلام فرنسية.
وفيما كان الحزب هامشياً، فإنه اكتسب زخماً مع مرور الوقت، مثل بقية الأحزاب المتطرفة في أوروبا، عبر تقديم نسخته الخاصة من الخطاب الديماغوجي القائم على تخويف الناس، من المحافظين والمتدينين تحديداً، من "الإسلاموية" و"اليسار المتوحش" و"الليبرالية الحديثة"، وهي مصطلحات تستخدمها الأنظمة الشمولية في روسيا وسوريا وإيران وكوريا الشمالية، على سبيل المثال، في توصيفها لـ"حقوق الإنسان". وتطرح تلك الأحزاب نفسها كحامية للقيم الأوروبية من الإسلام ومجتمع الميم والمهاجرين واللاجئين واليهود وغيرهم، علماً أن العلاقات بين تلك الأحزاب المتطرفة والأنظمة الديكتاتورية ليست خفية، بدليل العلاقات المالية التي تربط لوبان مع الكرملين في موسكو، والزيارات التي قام بها نواب ألمان وفرنسيون من اليمين المتطرف لنظام بشار الأسد طوال سنوات.
وخفف الحزب في العموم مؤخراً من لهجته تجاه قضايا مثل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي على طريقة "بريكست" في بريطانيا، أو سحب باريس من هيكل قيادة حلف شمال الأطلسي "ناتو"، مثلما كانت لوبان تنادي لسنوات. لكن ذلك لا يعني اختفاء تلك الأهداف، بقدر ما يعني تجنب الحديث عنها حتى عند طرح أسئلة على سياسيي الحزب من قبل الصحافة أو الخصوم في المناظرات الانتخابية.
وبالطبع فإن قادة اليمين المتطرف، مثل جوردان بارديلا المرشح لمنصب رئاسة الوزراء في حال حصول حزبه على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية بعد الجولة الثانية من الانتخابات، الأحد المقبل، يزعمون أنهم سياسيون يمثلون كل الفرنسيين من دون استثناء. لكنهم في الواقع يروجون فقط لنسختهم المشوهة من "الديموقراطية" و"الحرية" المصممة خصيصاً لهم في وجه "الأقليات" من منطلق أن قيم الحضارات الأخرى لا تتواءم مع قيم الحرية الغربيةَ، فضلاً عن نظرتهم للمهاجرين والمواطنين الغربيين المتحدرين من إثنيات أخرى على أنهم "بشر من درجة ثالثة" وفي أفضل الأحوال السبب في معدلات البطالة والفقر وانهيار الطبقة الوسطى.
وخلال الاستعداد للجولة الأولى من الانتخابات، قال أحد مرشحي "التجمع الوطني" أن حزباً منافساً "يتم تمويله من قِبَل اليهود"، وزعم مرشح آخر أن بعض الحضارات تبقى "أدنى من الحيوان في سلاسل التطور"، في حين ربط مرشح ثالث تفشي بق الفِراش في فرنسا بـ"القدوم الجماعي من دول أفريقيا". وقامت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية بجمع "لائحة لا نهاية لها" من مرشحي "التجمع الوطني" الذين أدلوا بتصريحات "مرفوضة" عبر الإنترنت. وقام موقع "ميديا بارت" بتحديد 45 ملفاً إشكالياً على الأقل. وتحت ضغط التدقيق الإعلامي، حذف بعض المرشحين منشوراتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بينما بدا آخرون راضين عن الإبقاء على سجلهم كما هو أمام عيون متابعيهم، بل ثمة مرشحون ارتدوا شعارات نازية صريحة استعداداً للجولة الثانية من الانتخابات.
وضمن مبدأ "التفضيل الوطني"، فإن تعريف الفرنسي من غير الفرنسي لا يعني فقط الجنسية الفرنسية، بل يتعدى ذلك نحو مزدوجي الجنسية مثلاً ممن ينوي اليمين المتطرف حرمانهم من وظائف ومناصب معينة في حال وصوله للسلطة، تماماً مثلما كان اليهود ممنوعين من العمل في أعمال معينة في آخر مرة كان اليمين المتطرف حاكماً للبلاد قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. ويصبح بذلك كل شخص معرضاً لتهمة أنه ليس فرنسياً بما يكفي لمجرد أنه من عرق مختلف أو من أصول مختلفة أو من دين مختلف أو من هوية جنسية وجندرية معينة، طالما أنه لا يحقق شروط اليمين المتطرف للمواطن الأوروبي المثالي: أبيض ومسيحي ومحافظ.
وفيما قال بعض الفرنسيين ممن صوتوا لليمين المتطرف في الجولة الأولى من الانتخابات لوكالة "فرانس برس"، أن نواياهم كانت الرغبة في التغيير لا العنصرية، فإن تجاهل العنصرية أمر خطير، لأن أحزاباً وجماعات من هذا النوع تعيش على الخوف وتخلق أعداء من أجل استمراريتها. وفيما يمثل العرب والمسلمون واللاجئون، العدو الأول اليوم لذلك الخطاب، فإنه سيتمدد لاحقاً ليشمل آخرين، بكل تأكيد، بما في ذلك أولئك الذين يحتمل أنهم صوتوا للحزب بطريقة أو بأخرى.
كل ذلك ليس مبالغة بل يحضر بوضوح وجلاء في كافة الدول التي وصل إليها اليمين المتطرف للسلطة، لكنه في الحالة الفرنسية يصبح أخطر ربما لأن فرنسا تضم أكبر جاليتين مسلمة ويهودية في أوروبا من جهة، إضافة إلى ريادتها في مجال حقوق المثليين وحقوق الصحافة وحرية التعبير، وأهميتها في حلف شمال الأطلسي "ناتو" ودورها القيادي في الاتحاد الأوروبي. وحتى مع أغلبية نسبية لليمين المتطرف في البرلمان، فإن المشهد ككل يبشر بفترة من عدم الاستقرار وعدم اليقين على كافة المستويات.
ولم يعد المشهد المتطرف مقتصراً على السياسيين وحدهم، لأن أنصار اليمين المتطرف الفرنسي من النازيين الجدد ودعاة الفاشية وتفوق العرق الأبيض، باتوا أكثر تعبيراً عن أنفسهم من دون خوف. مثلأً، شهدت مدينة ليون الفرنسية قبل نحو أسبوعين، مظاهرة صادمة شاركت فيها نحو 40 شخصية داعمة للحزب لوبان، وهم يهتفون: "نحن نازيون. المسلمون خارج أوروبا". كما شهدت مدينة روان، عاصمة النورماندي شمال غربي البلاد، دعوات في مواقع التواصل رفعت شعارات نازية صريحة لطرد الأجانب من فرنسا، فيما يمكن رصد مئات الحالات لأفراد ناشطين في مواقع التواصل ممن يرتدون العلم النازي: كقمصان للرجال وتنانير للنساء!
وعند مواجهة لوبان وأنصارها بكل تلك الحقائق، فإن الإنكار هو الجواب، والأسبوع المقبل في حال نال "التجمع الوطني" أكبر كتلة في البرلمان الفرنسي، كما هو متوقع، فسيكون الحزب أعاد تعريف مفهوم المحافظة الفرنسية تماماً، مثلما غيّر ترامب مفهوم الحزب الجمهوري الأميركي وصبغه على شاكلته بشعار "أميركا أولاً" منذ العام 2016 بحيث لا يمكن التمييز بين الجانبين اليوم. وفيما رفض مجلس الدولة طلباً من حزب "التجمع الوطني" لإلغاء صفة المتشدد عنه في آذار/مارس الماضي، فإن أنصاره يردون على ذلك بأنه مؤامرة ضدهم.
🗞 À la une du journal l’Humanité, aujourd’hui, mardi 18 juin 2024 : “Extrême droite : l’apartheid à la française” #Législatives #RN pic.twitter.com/SF7euFGOnm
— Unes de presse (@unesdepresse) June 18, 2024
والسؤال هنا ما هو الفرق بين اليمين واليمين المتطرف ضمن دولة ديموقراطية مثل فرنسا؟ والجواب بحسب صحيفة "فايننشال تايمز" يكمن في الموقف من الديموقراطية نفسها، لأنه لو رفض زعيم سياسي نتائج الانتخابات وأراد أن يسحق ما يسميه "الدولة العميقة"، أي الدولة نفسها، فسيكون هو تجسيداً لليمين المتطرف، كحالة ترامب الذي أمر أنصاره بالهجوم على مبنى الكونغرس بعد خسارته الانتخابات الماضية. لكن عندما يقوم الحزب بالدفاع عن سياسات غير مستساغة ورجعية أو حتى عنصرية، لكنها تظل في إطار السياسة الديموقراطية وحكم القانون، فمصطلح "اليمين المتطرف" لا ينطبق عليه في هذه الحالة ولن يكون مناسباً، وهذه هي الجزئية التي ينطلق منها سياسيو حزب "التجمع الوطني" تحديداً لتبرير خطابهم العنصري.
ويطلق الباحثون السياسيون على مجموعة من السياسات المقبولة على أنها ممثلة للتيار الرئيسي في مرحلة معينة باسم "نافذة أوفرتون"، نسبة للمحلل السياسي الأميركي جوزيف أوفرتون. وما قام ترامب ومارين لوبان في السنوات الماضية هو حرف تلك النافذة. فباتت السياسات التي كان يُنظر إليها بأنها متطرفة، جزءاً من الخطاب الرئيسي وحاضرة بشكل يومي في نشرات الأخبار لدرجة باتت العنصرية شبه طبيعية.
لكن النظام الديموقراطي لا يعني فقط تداول السلطة، لأن النظام نفسه تطور مع مرور الزمن ليشمل قيماً يعاديها اليمين المتطرف بشكل صريح، مثل المساواة وحقوق الإنسان. ومبدأ التفضيل الوطني الفضفاض، في حال إقراره، يشكل مدخلاً لسياسات تقوض الإطار الديموقراطي حتماً، بشكل يمهد للمطالبة بسلطات طارئة، وبالتالي اجتياز الخط نحو الديكتاتورية وهو ما يظهر في دعوات لوبان حتى قبل الانتخابات، للرئيس ماكرون للتنحي أولاً، ولتسليم بارديلا القدرة على اتخاذ قرارات عسكرية كقائد للجيش، ثانياً.