العابرون جنسياً: ورقة انتخابية في الولايات المتحدة!
مرة بعد مرة، يثبت أيلون ماسك أن سيطرته على منصة "تويتر" العام الماضي في صفقة فلكية بلغت 44 مليار دولار، كانت من أسوأ ما حدث في قطاع التكنولوجيا على الإطلاق، لأن الرجل الذي نصب نفسه وصياً على الجنس البشري وحامياً له من الانقراض المتخيل، لمجرد أنه من أثرى أثرياء العالم، لم يسمح فقط بازدهار المتطرفين والنازيين الجدد ومروجي نظرية المؤامرة والمؤمنين بتفوق العرق الأبيض، في المنصة من جديد، بل يساهم شخصياً في ذلك الضخ المروع بما في ذلك مشاركته أخيراً للفيلم "الوثائقي" "ما هي المرأة" (What is a woman?) الذي أنتجته منصة "ذا دايلي واير" اليمينية المتطرفة، ليحصد أكثر من 169 مليون مشاهدة عطفاً على شهرة ماسك وعدد متابعيه وتحويل خوارزمية "تويتر" لإظهار تغريداته لأكبر عدد ممكن من الناس قسراً.
والوثائقي هو جزء من خطاب عام يستهدف العابرين جنسياً في الولايات المتحدة، مع تحويل وجودهم بحد ذاته في خطاب السياسيين المحافظين والإعلام اليميني عموماً إلى خطر وجودي يهدد الولايات المتحدة! وذلك ليس مبالغة إذ شهدت الولايات المتحدة تضييقاً على تلك الفئة الصغيرة في مجتمع الميم، لدرجة أن النائبة الديموقراطية العابرة جنسياً في برلمان مونتانا، زوي زيفير، مُنعت من الكلام في نيسان/أبريل الماضي وتمت مخاطبتها على أنها ذكَر من قبل زملائها اليمينيين حينها! كما سنّت تشريعات جديدة في عدد من الولايات التي يحكمها المحافظون تمنع القاصرين من تلقي الأدوية التي تمنع هرمونات البلوغ أو الخضوع لعمليات جراحية لتحويل الجنس، وهي علاجات، وإن كانت لا تزال محل جدل، لكن ثمة من يؤيدها باعتبارها فعالة في بعض حالات اضطراب الهوية الجنسية بحسب مدافعين عن حقوق الإنسان.
والوثائقي ينطلق من عبارات معادية للنساء أولاً، قبل تعميمها على العابرين جنسياً، ويقول في مطلعه المذيع مات والش بأن الذكور والإناث ليسوا متساوين، وقدم أفكاراً تظهر تفوق الرجال على النساء من الناحية العقلية والفكرية، وغيرها من الأفكار الذكورية المتطرفة. واللافت أن الفيلم، وكل الخطاب اليميني المتعلق بكراهية العابرين جنسياً، يركز على التحول من ذكر إلى أنثى، لا العكس، في ارتباط بين كراهية النساء وكراهية العابرين جنسياً، كما أن الفيلم يركز على الأدوار الجندرية التقليدية، الرجل يعمل وينتج ويفكر، والمرأة تلبس الفساتين اللطيفة وتعتني بجمالها وتنتظر زوجها بطاعة وتنجب الأطفال.
لا يحتاج أحد لأن يسمع تعريفات رجعية عن معنى المرأة أصلاً، خصوصاً من طرف رجال متعصبين يريدون بخطابهم الحفاظ على سيطرتهم على النساء من حولهم. وسواء كانت المرأة عابرة جنسياً أم امرأة بيولوجياً، فإنها لا تسلم من ذلك الخطاب الذي يريد تحديد شكلها وهويتها وسلوكها كي تكون مقبولة. نجمة التنس الأميركية سيرينا وليامز، عانت لعقود من التمييز الذي لم يرتبط فقط بلونها وأصولها الأفريقية، بل أيضاً بقوتها الجسدية ووصفها مع شقيقتها فينوس بأنهما "الأخوان وليامز"! ونجمة البوب الأشهر مادونا، بكت في خطاب لها على المسرح العام 2016 وقالت أنها عانت من التمييز لعقود لمجرد أنها لم تلتزم بالقواعد التي لم توافق عليها أصلاً حيث لم تفكر عند كتابة أغانيها بجندر أو جنس محدد كهوية لتلك الأغاني التي غيرت الكثير في الموسيقى.
وأوضحت مادونا أنها ظنت في مطلع مسيرتها الفنية في الثمانينيات، أنه لا توجد قواعد، وأنها تأثرت بفنانين رجال كسروا حاجز الطيف الجندري، مثل دايفيد بوي، كما كانت تشاهد المغني برينس، وهو من جيلها الفني، يعبر عن جنسانيته بشكل فائض على المسرح، قبل أن تدرك لاحقاً في التسعينيات عندما تم وصفها بأنها الشيطان نفسه لإصدارها ألبومها "أيروتيكا" الذي عبرت فيه عن خيالاتها الجنسية، أنه لا قواعد.. للرجال فقط. أما النساء، فعليهن الالتزام بالقواعد: "من المسموح لك أن تكوني جميلة ولطيفة وجذابة جنسياً، لكن لا تكوني ذكية، لا تمتلكي رأياً. أو على الأقل لا تمتلكي رأياً معاكساً للسائد ... كوني ما يريد الرجال أن تكونيه. والأهم كوني نسخة عما يجعل النساء مرتاحات مع أنفسهن عندما يشاهدونك مع الرجال".
يردد والش مراراً بتساؤل خائف خلال سياق الفيلم، أنه يجب أن يقبل بأفكار من يقول له أن ابنه الصبي متساو مع بقية النساء؟ وأنه من الممكن أن يجد ابنه نفسه، ذات يوم، وقد تحول إلى امرأة ناقصة أقل قدراً من كماله؟ علماً أن حقوق العابرين جنسياً باتت للأسف في مقدمة القضايا الخلافية في الولايات المتحدة، وهي تثير انقساماً حاداً في المجتمع الأميركي المأزوم. ومنذ كانون الثاني/يناير، تم تمرير 29 قانوناً جديداً يقيّد حقوق العابرين جنسياً في 14 ولاية أميركية، وفقاً لبيانات "الاتحاد الأميركي للحريات المدنية" نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" مؤخراً.
والحال أن كراهية العابرين جنسياً، لها أسباب كثيرة تضاف إلى كراهية النساء، من بينها المواقف المحافظة من الجندر والجنس والنظرة الدينية للأدوار الجندرية والأسرة التقليدية. كما أن انتشار المعلومات المضللة، كما هو حال الفيلم الذي نصح به ماسك، يساهم في انتشار أفعال شخصية وسياسات عامة قائمة على التمييز تجاه أفراد مستضعفين أصلاً. والسياسيون أنفسهم يرعون تلك المعلومات المضللة، بحسب مدافعين عن حقوق الإنسان، في المواسم الانتخابية تحديداً، ويغذون الانقسامات في المجتمع من أجل كسب أصوات فئات محددة في صناديق الاقتراع.
ولعل الوثائقي يظهر كيف أن الولايات المتحدة، بوصفها مركزاً عالمياً، مازالت تؤثر في صياغة النقاشات في أنحاء العالم، حتى عندما يكون ما تقدمه سلبياً. فالإعلام المحافظ في الشرق الأوسط وروسيا وغيرها من الدول التي حيث لا حقوق لمجتمع الميم، يتلقى هذه النوعية من المنتجات الإعلامية بسعادة، ويوزعها على أنها مثال من قلب الديموقراطية الأميركية حول خطورة المؤامرة التي تستهدف الجنس البشري بشكل يغذي السياسات القمعية المحلية، ويتم التعتيم في التغطيات المحلية على وجود هامش كبير للمناورة والنقاش من قبل الليبراليين والمدافعين عن حقوق الإنسان في المجتمع الأميركي، وعقود من النضال من أجل المساواة هناك.
وبالتالي فإن ما يصل في التغطيات الإعلامية هو حديث النُّخب المجتزأ من سياقه الإنساني، حيث يؤثر خطاب الكراهية في حياة أفراد ويزيد من عزلتهم ويخلق جواً مشحوناً بالخوف والعداء والترهيب بشكل قد يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. وقد يشعر العابرون جنسياً بضرورة إخفاء هويتهم أو تجنب الأماكن العامة بسبب المخاوف المتعلقة بسلامتهم. ويؤثر ذلك العزل على شعورهم بالانتماء وثقتهم بأنفسهم، كما يقول مدافعون عن حقوق الإنسان أن الخطاب ككل يحرم الأفراد من الرعاية الصحية والخدمات العامة ويضع عليهم وصمة عار اجتماعية بشكل يجعلهم أكثر عرضة لخطر إيذاء النفس والانتحار.
ولا يتعلق الموضوع بصعود اليمين المتطرف كردّ فعل على وجود الديموقراطيين في السلطة مثلاً، أو كحركة مضادة لليرالبية السائدة في وسائل الإعلام وهوليوود. بل تكشف النقاشات الحاضرة في المجتمعات الغربية منذ أكثر من عقد، أن الكثير من تلك المجتمعات يضم أصواتاً محافظة ذكورية ورجعية لم تكتم نفسها بقدر ما وجدت في مواقع التواصل والإنترنت مساحة للبروز وبث أفكار سامة. ويظهر ذلك في الولايات المتحدة أكثر من دول أوروبية كفرنسا على سبيل المثال، بسبب حقيقة انتشار ورعاية التدين في المجتمع الأميركي حيث ترتفع مستويات التدين مقارنة بأي دولة غربية أخرى، بحسب إحصائيات نشرتها مجلة "فورين أفيرز".
يلاحظ ذلك في الانقسام الأميركي في التصويت للرئيس السابق دونالد ترامب في انتخابات العام 2016 و2020 على حد سواء، مئات الملايين من الأميركيين رأوا في ترامب القائد المخلص لأميركا من "شرور التعددية" وإعادتها إلى مجدها السابق. الناشطة اليمينية المتطرفة التي ضمها ترامب إلى فريق مساعديه مؤخراً، لورا لومر، قالت أنها مؤمنة بتفوق العرق الأبيض، وأن الولايات المتحدة بُنِيت كبلد "عرقي مسيحي يهودي أبيض بشكل أساسي، لكن بمرور الوقت، والهجرة وكل هذه الدعوات للتنوع، بدأ تدمير هذا البلد".
ومؤخراً بدأت تنتشر دعوات إلى تغيير حدود الولايات المتحدة الداخلية نفسها، مثلاً في أيار/مايو الماضي خرج آلاف المتظاهرين في ريف أوريغون من أجل الانفصال عن الولاية التي توجد فيها حريات عامة وقيود على حمل الأسلحة ودعم لمجتمع الميم والحق في الإجهاض، مطالبين بالانضمام إلى ولاية أيداهو المحافظة المجاورة من أجل الحياة بجوار أفراد "يشاركوننا التفكير نفسه".
على أن الوثائقي الجديد وخطابات سياسيين، من ترامب إلى حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، مروراً بإعلاميين مثل تاكر كارلسون، وغيرهم، يحول حياة الأفراد ووجودهم إلى عقيدة متخيلة (transgenderism)، ويخلق مؤامرة تفيد بأن هناك ضخاً لتحويل هوية أميركا ونزعها عن تاريخها. والخطورة في هذا النوع من الخطاب الديماغوجي تكمن في أن المستهدف بالكراهية ليس ثابتاً بقدر ما هو متغير تبعاً للظروف والزمن. اليوم يتلقى العابرون جنسياً اتهامات تُشيطن وجودهم بوصفهم "العدو الأول للمسيحية" وبالتالي ضمناً، معادياً للولايات المتحدة على مستوى قومي وجودي. وغداً سيتم وضع أفراد جدد في تلك الخانة.
هذا الخطاب بحذافيره كان حاضراً لأكثر من قرنين من قبل المحافظين الأميركيين وأقصى اليمين هناك، تحت مسميات مختلفة، من معادة اليهود إلى معاداة البلشفية إلى معاداة الشيوعية إلى معاداة الإسلام إلى معاداة ثقافة "الووك" اليوم. وفيها جميعاً يتم تصوير عدو داخلي ينشط في الأراضي الأميركية لطعن أميركا في ظهرها. وبموجب هذا الخطاب تُنزع الإنسانية عن ملايين البشر، الذين تختلف هويتهم تبعاً للمرحلة الزمنية، من أجل أهداف الترويج لسياسات تُستغرب حيازتها مساحة كهذه في مجتمعات متقدمة نجحت في تكريس حقوق الإنسان والمساواة ضمن قوانينها ودساتيرها.