نتوارث الخوف.. ونتقن بروتوكول الهروب
"لم يكن هناك من يسعفنا عندما نال الملجأ الذي كنّا نختبئ فيه، نصيبه من القصف، ولا من ينشل أجسادنا من تحت الركام. رأيتُ أمّيَ ممددةً جثّة هامدة، وفي حضنها أختيَ الأصغر تبكي بلا توقّف من الخوف". ذكريات ترويها لي أمي باستمرار، بالغّصة ذاتها وبخوفٍ لم يسمح له الزمن بأن ينْكَمِش.
أمي، كَبُرَت مع وجع ذاقه الكثيرون في لبنان، من شماله إلى أقصى جنوبه. الحرب أهلكت الجميع، وكان من نصيب أمي خسارة والدتها وأخاها الأكبر. خمسة أولاد يُتّموا بين ليلة وضحاها، أكبرهم يبلغ من العمر 17 عاماً وأصغرهم تبلغ ثمانية أعوام.
أكثر من 40 سنة مرّت على هذه الذكرى المؤلمة، وخوف أمّي كان يكبُر مع مرور الزمن. هذه الرقعة من الأرض حيث نعيش، لم تُعطَ أمّي يوماً سبباً كافياً ومقنِعاً لتضع خوفها جانباً. من حربٍ إلى أخرى، من انفجار الى آخر، من أزمة الى أخرى.. أيّامٌ مشحونة بالخوف والتروما التي تبقى بلا علاج.
لم تكن أمي في بيروت في الرابع من آب، يوم وقوع الانفجار الخبيث. هذه المرّة، كانت الصدمة والخوف من نصيبي. لم أكن أعلم، خلال الثواني الأولى للانفجار، عمّا إذا كانت هذه الكارثة زلزالاً، أم اعصاراً عصف ببيوتنا ليفتحها بعدما أقفلت الأزمة الاقتصادية وأزمة كورونا أبوابنا في وجوه الآخرين؛ أم أن المبنى القديم الذي أقطن فيه وسط بيروت يهبط بنا وبطوابقه الأربعة المتصدعة، التي نجت من حروب سابقة بأعجوبة.
كان وَقْعُ الانفجار صادماً. كيف له أن يصدِمنا، نحن الذين وُلِدنا أثناء الحرب، وكانت طفولتنا شاهدةً على مجازر ارتكبت بحق أطفال يبعدون عنّا بضع كيلومترات؟
كيف نجح الخوف في التسلل إلى داخلنا، نحن الذين كبُرنا وفي شوارعنا وأحيائنا معارِك حوَّلتْها لمنصّات قتلٍ ودمار؟ مرّت ثوانٍ معدودة، ونحن ممددون على الأرض في انتظار أن نفهم ما الذي يحدث، وهنا، علِمتُ بأنّ الحرب قد بدأت.
نعم. إنها الحرب. يُعرّف الكاتب والخطيب الروماني شيشرون، الحرب، على أنّها نزاع بالقوّة. نحن اليوم ننازع الحياة بأشرس ما في طاقتنا لنبقى أحياء وسط الرُكام، رغم كل المصائب التي أُنزِلَت علينا في هذا الوطن. إنها حربٌ سفيهة، تقتلنا برصاص صامِت يمزّق شرايين أعناقنا عند البكاء مساءً، على وطنٍ لم يذُق طعم الراحة يوماً، ويعمل بكل طاقته على تصدير الحزن والقلق من جيل إلى آخر.
إنها الحرب مع الذات، مع الأحلام والتصورات التي كنّا قد رسمناها للمستقبل، ومع الذكريات التي اتخذت من بيروت عاصمةً لها. إنها الحرب التي، في ثوانٍ معدودة، كفيلةٌ بأن تحوّلنا من مواطنين منشَغِلين بأبسط الأمور الحياتيّة اليوميّة إلى جيوش متأهّبة حاضرة لتطبيق "بروتوكول الهروب".
عند وقوع مصيبةٍ في وطني، نهلع في منازلنا، نسمع صراخ الجيران، ومن ثم نركض لنشغّل التلفاز. يطمئننا الإعلاميّون بأن زعماء الحرب بألف خير، فنستريح ونقفل الشاشات. فما همّنا لكل ما يحدث طالما أن الزعيم بخير؟ على الأقل، هذا ما يقوله لنا الإعلام.
نتوجّه إلى غُرَفِنا، وكلٌّ منّا يبدأ بجمع أغراضه الأقرب إلى قلبه، في سباق مع الوقت. فردٌ واحدٌ من العائلة فقط يتسلم مهمّة "جمع الأوراق المهمّة": جوازات السفر، الأوراق الثبوتية، الهويات والشهادات المدرسية والجامعية. "بروتوكول الهروب" لم يُدرّس يوماً في مدارسنا، لكنه يولَد معنا ويتطوّر مع الأزمات المتتالية التي نمرّ بها. شأنه من شأن الخوف الذي يكبُر معنا بصمتٍ، وينفجر عند وقوع حدثٍ جديد ندفع به الثمن.
في هذا الوَطن، نُقتَل يومياً من دون أن نشارك في حروب. ندفع أثماناً باهظةً لأخطاء يرتكبها مجرمون بصفة زعماء. نخاف من الحُب لأن الفُراق كُتِب لنا ولأحبابنا الذين يقضون برصاص طائش، أو قنبلة موقوتة زُرِعت رسالة لمسؤول في العنوان الخاطئ. في هذا الوطن أيضاً، يورّث الزعماء أبناءهم ثروات سُرِقت منّا، وفُرصاً حُرِمنا منها، وأحلاماً انتزعوها من طفولتنا وشبابنا. أمّا نحن، فلا نَرِث سوى وجع لا يقل عن وجع أهلنا، وخوف لا يتبدَّد مع مرور الوقت، وأمل في بلد لم يكُن يوماً لنا.