مانيفستو باريس 2024

رشا الأطرش
السبت   2024/07/27
الشعلة ستبقى طوال مدة الألعاب طائرةً فوق المدينة على ارتفاع 30متراً (غيتي)
كأنها الرسالة الأخيرة للبشرية، أو كلمتها الأولى. لا فرق. فأول الكلام يحفر مكانه في التاريخ، مثلما أن آخِره مُتوَّج بحصانة من النسيان، إذ ليس بَعده من بلاغة. هكذا كانت حفلة افتتاح أولمبياد باريس، ليل الجمعة. كرنفال مَلحمي، في النهر وعلى الأرض، تحت الماء، وفي السماء حيث استقرت الشعلة أخيراً سابحة في الهواء على ارتفاع 30 متراً. انفجار الدهشة التي لم ينل منها المطر المستمر لساعات، بل طوّعته المدينة واللجنة المنظّمة خارقة الذكاء، لتجعله في خدمة مشهديتها الأسطورية، لتتجاوز الإبهار، إلى عبقرية ثقافية وسياسية، وحساسية من النوع التي تجعل الإنسان إنساناً.

حتى شخوص اللوحات الأشهر في اللوفر، قفزت من إطاراتها وتراكضت إلى النوافذ تتفرج على تلك المعجزة الجارية في الخارج. وفي هذه الأثناء، في خضم الأبّهة الآسرة، ثمة متسع رحب للدعابة، للّعب. لا سخرية ولا مسامير، بل ظُرف لطيف مسبوك ومحبوك، بخفة السكّر الناعم في حلوى الماكارون بهية الألوان. "المينيونز" الصُّفر الصغار، يسرقون لوحة الموناليزا، وفي غواصتهم تحت سطح "السين" يجرون بدورهم أولمبيادهم الظريف. ماري أنطوانيت حاملة رأسها المقطوع، تغني. باريس تُمازح تاريخها وأيقوناتها، حتى فيما تؤسطر ثورتها بتطايُر آلاف الشرائط الحمُر لتمثيل الدم، وفيما تبجّل مسارحها ومكتباتها ومتاحفها. ومَن يُجيد تمجيد تراثه والضحك معه في آن واحد، وعلى مرأى العالم بأسره، هو مَن يستحق أن يبقى. باريس أقنعت الكوكب، هذه الليلة، بالانسحاب من منافستها لعقود مقبلة وعن طيب خاطر، فتاجُ مُلك الجمال يطير إليها من تلقائه.

مدينة بأسرها، مدينة من مدن العالم القليلة والأثيرة، تحولت بيت دمية عملاقاً. تحار العيون في تنقلها بين نوافذها وزواياها كي لا تضيّع تفصيلاً قد لا يستمر على الشاشة أكثر من ثوان، لكنه يعلق في خلفية الرأس كالزبدة الذائبة في الكرواسان الذي لم ينس المنظمون تكريمه في أزياء الراقصين. شأنه شأن تيمات الحرية والأخوة والمساواة المتُرجمة للأبصار كما لم تُترجم قصيدة. بالأحرى هو خطاب.

افتتاح الأولمبياد الباريسي كان مانيفستو حريات وتنوع. تعدّد وإبداع وتمازُج وتصعيد. عدالة الفرديات وتنافسها. هزائمها وتمايزاتها، انتصاراتها وتعاضدها. مساحاتها الممتدة إلى الفضاء العام. فضاء المدينة التي اختارت هذه الليلة أن تكون ملعباً كبيراً لسكان الكوكب، لتتلو عليهم بيانها، ويعيشوه معها وبها.

لا أقصى اليسار بوسعه أن يفعل ذلك، ولا أقصى اليمين. هذا ما تصنعه الليبرالية المعولمة، المعقلنة بالديموقراطية، المُحتضَنة بجوهر القيمة الإنسانية، المتزينة بتراكم حضاري، لا يلبث أن ينجز تراكمه، حتى يراكم المزيد.

كانت حفلة باريس 2024، الخطاب الأمثولة للبّ الصواب السياسي، المتخفف من رطانته وشُرطته الموتورة، من افتعاله وادعاء تفوّقه الدائم كالإيديولوجيات المتقادمة التي يُفترض أنه يناهضها. تكريم نساء التاريخ الحديث. الاحتفال بسيولة الجندر. الغناء بلغة الإشارة. إشراك أصحاب التحديات الجسدية في تمرير الشعلة، للقول وبوضوح إن ظهورهم لا ينحصر في الألعاب البارالامبية المقررة لاحقاً والتي ستحظى بدورها بحفلة افتتاحية خاصة بها. الاحتفاء برموز الإثنيات والوجوه والأسماء من الخلفيات كافة، ليس في فرنسا وحدها، بل في الكرة الأرضية. بِيض الشمال وملوّنو الجنوب، مهاجرون ولاجئون، شباب وعجائز وأطفال، مشاهير وكومبارس، والفنون بعاليها وواطيها. ليلة الجمعة، لا أحد، لا شيء كان خارج باريس.

"العشاء الأخير" ما زال لوحة، لكنها تموج بهويات وحريات جنسية لا عدّ لها، والطاولة نفسها تصبح منصة لعرض الأزياء... وما الموضة إلا باريس؟ الكتب. أحلام جول فيرن وأدبه. أنطوان دو سانت أكزوبري وأميره الصغير. فيكتور هوغو وأحدبه ونوتردامه، وجان فالجان الراكض في أنفاق باريس بشخص زين الدين زيدان الذي لا يني يسلّم الشعلة لأطفال على ألواح التزلج ومعهم "شبح الأوبرا" محترف رياضة الباركور أو القفز على أسطح المباني.

القطار الذي ظنه جمهور الفيلم السينمائي الأول سيخرج من الشاشة ويدهسهم، خرج. اخترق الشاشة ليكرّمها. وكُرّمت الأوبرا في "كارمن". وإديث بياف في أكثر من أغنية، وصولاً إلى الذروة مع سيلين ديون المكرّمة بدورها في دور البطولة بعد مرض واحتجاب. وشارل أزنافور الذي غنّته فرقة عسكرية! إلى الهيفي ميتال والراب والهارد روك... ورقص الكانكان. السينما نفسها، والإخراج التلفزيوني، كانا جزءاً من تقنيات تقديم حفلة الهواء الطلق.

باريس 2024 فكرت في كل تفصيل، حتى قبل أن يخطر في بال أحد، بل وما لن يخطر أبداً. أدّت التحية لإرثها، والإرث الإنساني الحديث، بكل ما تملك من جدية وهزل وفانتازيا. ووقع العالم في غرامها، مجدداً.