إدوارد سعيد وفلسطين.. الحدود الأخيرة أو الانتماء المستحيل

ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
الأحد   2024/10/06
"خارج المكان" حكاية طفولة ومراهقة استشرف سردها نهايته عند دخول سعيد إلى الجامعة
يحتفي هذا النص الذي نقدم ترجمته العربية عن الأصل الفرنسي بحضور فلسطين في السيرة الحياتية والمعرفية لمبدع "الاستشراق". كان تركيز الكاتب إيف كلافارون مكثفاً على الكتاب السير ذاتي "خارج المكان" الذي شرع ادوارد سعيد في تحريره بعد اكتشاف إصابته بسرطان الدم. وكانت الغاية الرئيسة متمثلة في الوصل بين الشعور بعدم أو استحالة الانتماء المترتب عن فقد فلسطين والسعي الدؤوب إلى استعادتها من خلال الكتابة.
يعتبر إيف كلافارون أحد الوجوه البارزة في الدراسات ما بعد الكولونيالية في فرنسا ويعمل أستاذاً للادب المقارن في جامعة سانت اتيين جون موني.
....

تزامنت بداية كتابة السيرة الذاتية عام 1994 مع اكتشاف إدوارد سعيد إصابته بسرطان الدم. مثلت هذه السيرة والحالة هذه كتابة ضد الموت وحيث يتيح تعهد الإحساس بالأرق التخلص من النوم باعتباره معادلاً للموت الذي تقلّص من حضوره لحظات العيش والوعي. وبعد شهور قليلة من صدور نتائج التحليل الحاسمة، كتب سعيد رسالة طويلة إلى والدته التي رحلت قبل سنتين من ذلك التاريخ في محاولة منه للحصول على أمر بإعادة ترتيب وتنظيم حكاية حياة يبدو انها أصبحت الان في مهب الريح.

يتأطر كتاب "خارج المكان" في خانة الأدب المهاجر ذي النفس السير ذاتي غالباً والذي يسعى من خلاله الكاتب إلى فهم حالة الإقصاء والتهميش، فيما تأخذ الكتابة شكل تجلية الذات والعالم من خلال التحليل الذاتي. تحتفي مذكرات إدوارد سعيد بالوطن، أقصد فلسطين، الذي يتميّز بقيمة كونه مفقوداً على الصعيدين الشخصي والسياسي. ينفتح كتاب "خارج المكان" بالفعل على تصريح بالضياع أو الفقد: يصف هذا الكتاب في الأساس عالماً منسياً ومفقوداً ويجلي ذلكم الإحساس بالمعاناة، الناجم عن كونك من دون وطن أو أرض أسلاف أو سلطة ومؤسسات تتكفل بحمايتك. وهو يفضح بشكل خاص الطرد والتهحير. جهد كل أفراد أسرة سعيد على حمله على نسيان وطنه المفقود عام 1948، بعد تأسيس دولة إسرائيل، بواسطة الركون إلى صمت مطبق وعنيد. وعلى الرغم من أن عنوان السيرة "خارج المكان" يوحي باستحالة العودة إلى الوطن، فان الغاية من كتابته تتمثل في إنجاز إعادة بناء الأنا وترميم تاريخي من خلال ذكر البلاد المفقودة فلسطين.

وبتأثير ذلك، كتب جوستوس ريد واينر الذي يعمل لصالح مركز القدس للعلاقات العامة مقالة في مجلة كومونتاري، رام من خلالها حرمان سعيد من هذا "الماضي" واتهمه في سياقها باختلاق حكاية عائلته كي يجعل منها مثالاً للحالة الفلسطينية، ويبرز من ثم المعركة التي يخوضها.

وسعيد الذي كان ينتمي علاوة على ذلك إلى عائلة أرستقراطية وثرية، لا يمكن عده فلسطينياً. وفي الحقيقة فإن سيرة "خارج المكان" سوف تصدر بعد قرابة شهر من صدور مقالة واينر؛ وهو ما دفع غالبية القراء إلى الاعتقاد بأن سعيد قضى طفولته في القدس قبل أن يتم تهجيره بعد تصويت مجلس الأمن عام 1947 على قرار تقسيم فلسطين، والذي أسفر فيما بعد عن تأسيس دولة إسرائيل.

قضى سعيد بداهة حياته بين الحدود السياسية والثقافية المرئية والخفية. وكان العنوان الأول الذي وقع اختياره عليه لهذه السيرة هو: الحق في عدم الرحيل. وهي صيغة تحيل إلى "ما بين" التي تستعمل لتعيين عدم الانتماء المؤسس للكتاب المهاجرين. يدرج كتاب "خارج المكان" السيرة في سياق ما بعد كولونيالي. وهو نمط كتابة غربي وغريب عن التراث العربي، ويمارسه أميركي من أصول فلسطينية، وإن تلقى تكويناً كاملاً عن الأدب الأوروبي. وخلافاً لآسيا جبار أو ف.س نايبول، فإن إدوارد سعيد ليس كاتب تخييل، وإنما مثقف وباحث تعتبر السيرة الذاتية العمل الأدبي الوحيد الذي يكتبه، والذي تعتبر الجيوبوليتيكا داخله بمثابة الأساس المزلزل نسبياً للذات. وسوف يتحدّد موضوع المقالة في ملاحظة كيف يحول كتاب "خارج المكان" إدوارد سعيد إلى رجل حدود مقابل فلسطين، والتي لن يتاح له شهود الاعتراف التام والكامل بها، داخل الحدود المعترف بها دولياً، والتي سوف تشكل بالنسبة إليه الحدود النهائية والمستحيلة.

سيرة طفولة في مصر الكولونيالية
يعتبر كتاب "خارج المكان" حكاية طفولة ومراهقة، استشرف سردها نهايته، عند دخول سعيد إلى الجامعة. وقد احتفت هذه السيرة بسنوات التكوين واكتساب المعرفة وأولى التجارب مع العالم، وفي عمر لم يكن فيه التمييز فيها بين الواقع والتخييل مستقرأ. ويتمثل التحدي في إعادة بناء الذاكرة الشخصية والجماعية. كانت طفولة إدوارد سعيد موصولة بالمنفى ومنذورة للانتقال بين مصر وفلسطين ولبنان، الذي قضى فيه الجزء الأكبر من شبابه وتجربة الهيمنة الكولونيالية، بما أن هاته البلدان كانت موضوعة تحت الحماية البريطانية أو الفرنسية. وقد أعرب سعيد في سيرته وهو معزز بهذه التجربة عن حساسية مفرطة حيال الحدود المفروضة من لدن المجتمع الكولونيالي، خصوصاً وأنه تابع كل دراساته في معاهد ومؤسسات بريطانية وأميركية في القاهرة والقدس بشكل أكثر دقة. يتبنين الفضاء الكولونيالي وفق أيديولوجيا تأخذ في الاعتبار تراتبية الطبقات الاجتماعية والشعوب، وترسم مواقع مثالية يلعب فيها المجتمع الكولونيالي الفرجة الخاصة بنظامه ومشروعيته. وتبني هذه المشروعية فضاءه وفق شعار النظام والفصل والشراكة والتواصل مع الأشباه. ويجلي كل ذلك الحلم الكولونيالي بتراتبية يكون فيها كل في مكانه وبفضاء محدد ومغلق بدقة. ورغم أن مصر لم تكن تشبه الهند، فإن سعيد اصطدم بحدود متعدّدة، وفق دلالة الفصل الصارم المفروض من لدن النظام الكولونيالي.

كانت مدرسة الجزيرة التحضيرية التي تردّد عليها ما بين خريف 1941 وأيار من عام 1942 مؤسسة تعليمية مغروسة بشكل مصطنع، وحيث لم يكن سعيد يتوفر فيها على أي أستاذ مصري. وقد تابع دراسته في وسط كوزموبوليتي معزول تماماً عن العالم العربي. وكان التعليم الذي يمارس فيه يشيد بعظمة إنكلترا، ويخصص اهتماماً مفرطاً لتاريخها والمعارك التي خاضتها، والبعيدة تماماً عن الثقافة الأصلية لإدوارد سعيد الشاب. درس سعيد في هذه المدرسة شكسبير بوصفه أيقونة للثقافة الغربية. وكانت شخصيات مسرحية هاملت رغم عيوبها ونقائصها أبطالاً بريطانيين يشعرونه بدونيته. كانت المدرسة أشبه بشركة أسسها البريطانيون بغاية تكريس سلطتهم. وكان النادي الرياضي يغلق أبوابه في وجه غير الأوروبيين. ولم يلبث سعيد أن وجد نفسه عرضة للتعنيف من لدن أحد المسؤولين الذي رغب في طرده، رغم كونه مسجلاً بشكل دائم: العرب ليسوا مقبولين هنا وأنت عربي.

يعيد سعيد قراءة فصول سنوات تكوينه الدراسي بطريقة سياسية جداً، وبالاستناد إلى وعي مبكر بمقاومة الامبريالية الأوروبية الآيلة للانهيار، خصوصاً في فيكتوريا كوليج في القاهرة حيث يجري تربية وتكوين التلاميذ على مبادئ الامبريالية البريطانية التي كانت في طور الاحتضار؛ وهو ما لم نكن واعين به. أصبح الركون إلى الشعب واحتقار الأساتذة البريطانيين علامة على مقاومة الاستعمار الذي فصله عن جذوره الثقافية. كان التغيير الوحيد الناجم عن الانتقال من النظام التربوي البريطاني إلى النظام الأميركي، متمثلاً في استبدال الأساتذة البريطانيين بالأميركيين المنتصرين. وفي الولايات المتحدة عثر سعيد على الحدود العرقية نفسها؛ إذ لم يحظ بعد نهاية تمدرسه بمدرسة مونت هاون بشرف المرتبة الثانية في دفعته، والتي استحقها عن جدارة؛ كانت هذه المدرسة مخصصة في غالبيتها للبيض. كانت فترة دراسته في مدرسة سان جورج في القدس الأجمل، ولكنها كانت قصيرة بسبب اضطراره إلى العودة بسرعة إلى القاهرة عقب قيام دولة إسرائيل التي قذفت به خارج الحدود.

شعر سعيد داخل المدارس البريطانية والأميركية بوضع التابع الذي كان ينوء تحت ثقله رغم جنسيته الأميركية؛ وكان ذلك بسبب حظر الحديث باللغة العربية.

تعيد الكتابة السير ذاتية عند سعيد تأويل أية وضعية صراع أو مواجهة مع الحضور البريطاني في مصر وفلسطين، بوصفها منتجة لوضعية مقاومة عند ادوارد سعيد الشاب المستعَمر. وقد قام في فترة لاحقة بفضح حدود الفصل العنصري المفروضة من لدن النظام الكولونيالي المنهار. تشكل سيرة "خارج المكان" في آن واحد استعارة للذات وتمثيلاً لحالة سياسية. وفي السيرة التي يكتبها سعيد، يكون الشخصي موصولاً بالسياسي والسياسي مندغماً بما هو شخصي.