سيرة نصرالله(5): الأب

محمد حجيري
الإثنين   2024/10/07
السيد نصرالله ونجله هادي
لا شك في أن السيد حسن نصرالله كان من الشخصيات النادرة والقليلة والمؤثرة، في سيرته وكايرزماه وقدراته. "مالئ الدنيا وشاغل الناس" بتعبير المتنبي. ومع اغتياله، أصبح بمرتبة الأسطورة – الرمز أكثر مما كان في حياته، فوُصف بـ"حسين عصرنا" مع ما يرمز إليه هذا التوصيف من أهمية.
بعد حلقة أولى، وثانية وثالثة ورابعة، هنا حلقة خامسة من محاولة لكتابة جوانب من سيرة نصرالله، تستند إلى بعض مقابلاته وإلى سيرة قصيرة كتبها يوماً بخط يده لمجلة إيرانية، إضافة إلى مراجع.

ترى أوريلي ضاهر، أستاذة مساعدة في جامعة باريس-دوفين وفي كلية العلوم السياسية في باريس، ومؤلِّفة كتاب "حزب الله: التعبئة والنفوذ"، أن السيد نصرالله منذ توليه الأمانة العامة لحزب الله حتى العام 1996، اكتسب سمعة طيبة باعتباره زعيماً عسكرياً شجاعاً قادراً على توجيه ضربات قاسية للعدو. وفي الوقت نفسه، بدا على الصعيد المحلي وكأنه تجسيد لتحول حزب الله نحو الشرعية والتعاون. المقربون من نصرالله يقدمون عنه صورة المُحاور البارع الحريص على الانفتاح على الأفرقاء اللبنانيين. وحضوره يلاحظه المرء من صوره، فيكاد لا يخلو زاروب في حارات القرى الشيعية الحدودية وأحيائها من صورة للأمين العام لـ"حزب الله". وعلى الطرق الرئيسية المؤدية اليها ترتفع لافتات ضخمة لصوره وشعارات من خطبه.

في 4 أيار 1997 نشب خلاف بين جناح حزب الله والدولة اللبنانية، عندما أعلن الأمين العام  السابق للحزب الشيخ صبحي الطفيلي "ثورة الجياع"، ودعا في 4 تموز إلى العصيان المدني ضد الحكومة اللبنانية. ووقع إشكال مسلح في عين بورضاي وقع فيه قتلى وجرحى، وما لبث أن طُرد الشيخ الطفيلي رسمياً من حزب الله إثر اعلان سياسي في 24 كانون 1998.

في أيلول 1997، أضيفت مأساة شخصيّة وعائليّة إلى سيرة نصرالله. نجله هادي، ابن الـ18 عاماً، استشهد في عمليّة عسكريّة ضدّ الإسرائيليّين في جنوب لبنان. أدى هذا الحدث إلى توسيع صورة نصرالله الوجدانية والأسطورية، فإلى جانب الصورة المألوفة للزعيم ظهرت صورة الرجل والأب، وأثارت إعجاب الجميع. ولا شك أن رد فعله وموقفه، تجاه هذا الحدث، يشكل أساساً لأسطورة نصرالله الحيّة.

لقد اندفعت وسائل الإعلام اللبنانية من كافة الأطياف للإحاطة بالحادثة على الفور. وعلى وجه الخصوص، كانت الطريقة التي حزنت بها عائلة نصرالله على ابنها في السرّ، فيما أظهرت في العلن صمودًا ملحوظًا، موضوعًا لعدد لا يحصى من المقالات. كتب حازم صاغية المنتقد لحزب الله، مقالة بعنوان "قيم حسن نصرالله"، قال فيها: "عليّ أوّلاً أن أعترف بأنّني ضبطت نفسي متلبّساً بقدرٍ من الودّ أُكنّه لحسن نصرالله فيما كان يلقي خطابه الأخير. أحسست بالودّ هذا حين قال، في عبارة قصيرة غير مألوفة في خطاباته وأحاديثه، إنّه هو أيضاً بكى حين ابتعدتْ عنه الكاميرا، قاصداً فَـقْده نجله هادي، وأنّه هو أيضاً "أب" يحسّ ما يحسّه الآباء. تلك العبارة لا يقبل صدقُها الطعنَ، فيما تبقى عبارات عدّة لـ"السيّد" حملها الخطاب الأخير، والخطب السابقة عليه، حمّالة أوجه كثيرة. لكنّ الكلمات المؤثّرة، تلك لا تشبه حسن نصرالله، كما لا تشبه "قادة المصير" الذين يجرّدون أنفسهم ممّا هو شخصيّ وذاتيّ فيهم سعياً وراء دور عامّ لا أثر فيه للشخصيّ والذاتيّ، وخصوصاً للضعف الإنسانيّ".

ومن بين كل المشاهد والشهادات التي نقلتها وسائل الإعلام، كان الخطاب الذي ألقاه حسن نصرالله، والذي بث تلفزيونياً على الهواء مباشرة على شاشة بعد أربع وعشرين ساعة من وفاة ابنه، هو الأكثر تأثيراً. فقد قررت قيادة حزب الله الاحتفال باليوم التالي للاشتباك، 13 سبتمبر/ أيلول، باعتباره الذكرى الرابعة لتظاهرة العام 1993 التي قتلت خلالها قوات الأمن العديد من المتظاهرين ضد اتفاق أوسلو عند جسر المطار في محلة الغبيري. وقد تمّ التخطيط لإقامة اجتفال في حارة حريك، حيث كان من المقرّر أن يلقي الأمين العام كلمة. وقد اتصل نعيم قاسم، نائب الأمين العام، بنصرالله في ذلك اليوم بالذات، "حوالى الظهر"، ليقترح عليه أن يلقي الخطاب بدلاً منه: "كانت خسارة فادحة للغاية ولا بد وأن يتأثر تأثير الأب بها". لكن نصرالله رفض العرض "بحزم وإصرار"، وذلك "حتى لا يُظهر للعدو أي علامة ضعف" ولأنه "لم ير ما يمنعه من التحدث بنفسه". واستمر قاسم في الإصرار، واختتم حديثه بالتأكيد على أنه سيقف إلى جانب نصرالله في حال غير رأيه. لكن نصرالله مضى قدماً وألقى خطابه. وبعدما أشاد بضحايا التظاهرة السلمية في 13 أيلول 1993، انتقل إلى الحديث عن استشهاد ابنه.

تقول أوريلي ضاهر أنه، على الصعيد الداخلي، عزز استشهاد هادي مصداقية زعامة والده. وليس من غير المعقول أن نتصور أن وفاته لعبت دوراً في إعادة انتخاب نصرالله رئيساً للحزب العام 1998. وقد تطلب هذا تعديلاً في النظام الأساسي للحزب لرفع الحظر المفروض على ترشح الأمين العام أكثر من فترتين متتاليتين.  
 
مع استشهاد الابن، انقسمت شخصية الأمين العام إلى نصفين. فمن خلف القائد العسكري، ظهر فجأة رجل، وهو الأب الذي يمكن أن نشعر بالشفقة على حزنه، فضلاً عن الاحترام والإعجاب بشجاعته. وهذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها تمييز نصرالله بوضوح كشخص. ساهم استشهاد هادي في هذا التحسن التدريجي لصورة الحزب، نتيجة الاحترام المتزايد المتنامي لنصرالله. كان نصرالله زعيماً في طائفة، فصار زعيماً لطائفة وحضوره يمتد الى العالم العربي وحركات ما يسمى "التحرر".

تنقل أوريلي ضاهر أنه في أثناء التعزية باستشهاد ابنه، استقبل نصرالله عدداً كبيراً من الناس من مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك مجموعة من الشباب من مختلف المذاهب، الذين أبلغوه رسمياً برغبتهم في القتال إلى جانب المقاومة الإسلامية في لبنان. ورغم كل الاختلافات الإيديولوجية بينهم، خصوصاً على المستوى الديني، فإنهم أصروا على رغبتهم في القتال تحت قيادة المقاومة الإسلامية في لبنان. وفي 3 تشرين الثاني 1997 شكل حزب الله "سرايا المقاومة".