يوميات عائلة نازحة... عندما هزَمَنا الخروج من البيت

مِهاد حيدر
الثلاثاء   2024/10/22
لقد ابتلعتنا الحرب، وليس لنا سوى تحمّل بردها المرتقب (علي علوش)
لم يصدّقني أحد من أفراد عائلتي عندما طلبت منهم تجهيز الحقائب.
تلقى معظم أهل البقاع خبر الإخلاء بسخريّة، "اسرائيل تبالغ اعلاميّاً كعادتها". وواصلت أمي أعمالها المنزليّة على نسق ما جرت العادة. إلى أن تحوّل الليل إلى كابوس مرعب، فطاول القصف كل المناطق البقاعيّة بالتساوي. شعرت كل عائلة أن نهايتها وشيكة. لم أخَف في البداية، وكنّا لا نزال نتابع أماكن الضربات، إلى أن انهزمت.

كان تلك أطول ليلة في حياتي؛ هزمتنا رائحة البارود، وهزمنا ارتجاج البيوت فوق رؤوسنا. في الصباح، لم يكن أمامنا خيار سوى الهرب، لكن إلى أين؟

سلكنا طريق غرب بعلبك، مروراً بالتليلة، طاريا، وشمسطار وصولًا إلى الفرزل. كان الطريق شبه خالٍ عند السابعة صباحًا، إلّا من سيارات مسرعة، مثلنا، تسابق الطائرات الاستطلاعيّة الكثيفة، هاربة بلا وجهة. لم يكن أمامنا سوى البحث عن مأوى، عن أي شقّة في زحلة أو محيطها. لكن لم يكن لدينا الوقت للبحث، كنّا ما زلنا نهرب بشكل لا إراديّ. إلى أن استقبلتنا إحدى معارف أهلي في قضاء كسروان في بيتها.

لكنّك ستعيش ذليلًا مهما كان المضيف لطيفاً أو سخيّاً. ستشعر كأنك سمكة أُخرجت عنوة من بحرها، لتعيش في وعاء زجاجي تراقب العالم الحي بعينيها المقتولتين. ستشعر أنك غير مرغوب فيك، مُراقَب، ومُحاسب على كل تصرّف.

لم تدم استضافتنا الباردة طويلًا؛ فقد تحوّلت ضربة "أيطو" في زغرتا إلى شمّاعة لدى بعض المستضيفين في الجبل لإخراج ضيوفهم من الطائفة الشيعية، سواء كانوا مناصرين لحزب الله أم لا، وسواء كان ذلك خيار المستضيف السياسي أو لم يكن. وأصبحنا مجدداً في الشارع نبحث عن مأوى آخر، بعدما طُردنا بشكل غير مباشر من مضيفتنا.

عن خلاء الأماكن
بدأنا صباحًا آخر من البحث عن شقّة، حيث كنّا نتبادل مئات الأرقام أنا وإخوتي. وعدنا شخص بوجود شقتين في عيون السيمان، لكننا بعدما انتظرناه، اكتشفنا أنه كان يكذب. مررنا بعيون السيمان، فاريا، حراجل، ميروبا، وفيترون، لكننا لم نجد شقة واحدة بأقل من 1000 دولار. لم نجد أحدًا يرحب بنا في منزله الصيفي الذي سيتركه فارغًا بعد انتهاء إجازته ليعود إلى الذوق أو جونية.

صادفنا امرأة من البقاع، عرفناها نازحة مثلنا. أشارت لنا من بعيد بأنها لا تستطيع الكلام، فصاحب الشقة التي تستأجرها يمنعهم من إصدار أي صوت. تحدّثنا بالإشارات. آخرون رفضوا تأجيرنا لأن النساء محجبات. البعض طلب عمولة تتجاوز أجرة الشقة، وفي أفضل الأحوال لم تكن أقل من 300 دولار. وهناك من رفض تأجير الرجال، وقَبِل فقط بالنساء. بدت الجبال فجأة خالية من البيوت، خالية من الأبواب المفتوحة في وجوهنا. ولم يعد أمامنا سوى خيارَين: العودة إلى الضيعة، أو خوض مغامرة لا نعرف نهايتها.

وقفنا، عائلة من سبعة أشخاص وطفل رضيع، في وسط الطريق. نظرنا إلى بعضنا البعض، على أحدنا اتخاذ القرار. إما العودة إلى قريتنا التي قُصفت بحوالى عشر غارات وتهدّم فيها الكثير من البيوت، أو إلقاء أنفسنا في المجهول. فاختَرنا المجهول.

توجّهنا شمالاً، بينما حاول أقاربنا في طرابلس البحث عن شقّة لنا. استطاع أحد السماسرة إيجاد منزل في دير عمار، يشبه كل شيء إلا المنزل. كان أشبه بكراج قديم، قُسِّمت غرفه تحت الأرض، كأنك تسكن على درج. بلغ إيجاره 800 دولار، مع عمولة سمسار قدرها 200 دولار. لم يعجبنا البتّة، فهو ليس مكانًا يصلح للسكن. وعندما رفضنا، لاحَقَنا السمسار مهدداً ومتوعّداً، مطالبًا بدفع 50 دولاراً بعدما أخذ رقم لوحة السيارة، بالرغم من أنه لم يبذل جهدًا يُذكر. دفع أخي المبلغ مضطراً، لأنّ علينا مواصلة البحث عن مكان للسكن.

واصلتُ اتصالاتي بأحد المكاتب العقارية، الذين عرضوا شقّة للإيجار في برقايل. اتفقنا على أن أتحمّل بدل النقل إذا لم تعجبني الشقة، لأنه في وسط البلد وبعيد. استغرق الطريق حوالى نصف الساعة، لنكتشف أننا في المكان الخطأ. لقد أضعنا الطريق، ووجدنا أنفسنا في منطقة جبلية وعرة، لا شبكة مواصلات فيها. فعدنا أدراجنا إلى الطريق الرئيسي وأكملنا المسير، لأفاجأ بصاحب الشقة يقول لي: "ما شفتي البيت بالصورة؟ إذا ما بدك تستأجريه، ما في داعي فرجيكي اياه".

أن تسكن في بيت رأيته في صورة؟ هذا ليس ما كنت أتوقعه. أخبرته أننا بحاجة لرؤية البيت. لكنه أصرّ على أنه إذا لم تكن نيتي الاستئجار فوراً، فلن يتكّبد عناء إظهار الشقة لنا. كل هذا ونحن في منتصف الطريق. لم أحتمل الأمر. عدنا أدراجنا لنبيت الليلة عند أقاربنا النازحين، الذين لا يسمح لهم المالك باستقبال أكثر من ستة أشخاص في منزل فارغ من كل شيء. حتّى حالفنا الحظ في اليوم الثاني، عندما سعى أحد أبناء المنطقة لإيجاد شقّة قديمة لم تُفتح منذ 15 عاماً، لترحب بنا فيها صورة وجه بشوش لامرأة ميتة.

فتحت لنا الباب صورة امرأة طرابلسيّة. لا شيء آخر في الشقّة سوى وجهها الممتلئ وخصلات شعرها البيضاء التي تفلت من تحت غطاء رأسها الأحمر. خلفها تمتدّ شجيرات الأفوكادو والموز، تلك الأشجار التي لم نرَ مثلها بهذا القرب من قبل. وعند قدميها تسرح الدجاجات بجوار دلوها الحديدي. هل ننزع الصورة عن الجدار؟ تتجاوز شجيراتها الإطار، لتصبح عالماً وذاكرة. أُعيد ترتيب الصورة، وأقول لأمي: "سنتركها هنا، فهي صاحبة هذا البيت، ونحن ضيوفها حتى نعود".

هل ننجو من برد الحرب؟
نتنقّل بين طرابلس، دير عمار، والمنية لشراء أساسيات الحياة، كمن يتنقل بين مشاهد متقطّعة. في رأسي، تدور مقارنة صامتة، علّني أجد طريقاً مألوفاً؛ هذا الطريق يشبه خط السفري، وهذا مفرق دورس. لكن، أي الطرق نسلك وأيها نتجاوز؟ ما الأسماء التي تصبح عليها الأماكن حين تُمحى ملامحها؟

تُقصف مدينة بعلبك ليلاً، في وسط سوقها التجاريّ، وكأن الذكريات تُدكُّ معها. هل سيبقى أبي ينتظرنا لنكمل مشوارنا عند طلعة العجمي بعد الآن؟ أنام على فراش صوفي خشن، غير مريح، لكنّه يطلّ على البحر. لقد ابتلعتنا الحرب، وليس لنا سوى تحمّل بردها المرتقب.