إسرائيل ستأكل نفسها

محمد صبحي
الإثنين   2024/10/21
قترح الروائي اليهودي الأميركي، فيليب روث، شتاتاً جديداً لليهود، هجرة اليهود الأوروبيين من فلسطين
لكل بداية نهاية. والصهيونية، التي خلقت بنيامين نتنياهو، تقترب من نهايتها، حتى لو كنا، حالياً، مسلّحين بأقلام فقط، كما تمنّت نعومي كلاين في خطابٍ ألقته بمناسبة عيد الفصح اليهودي الذي يحيي ذكرى الخروج من مصر، دعت فيه الكاتبة الصحافية اليهودية إلى التخلّص من الصهيونية، وإنهاء قرون من صنم الصهيونية الزائف لصالح ما سمّته يهودية الألفية الجديدة.

في روايته "عملية شايلوك"، الصادرة في العام 1993، عام اتفاقيات أوسلو، اقترح الروائي اليهودي الأميركي فيليب روث، شتاتاً جديداً لليهود، يتمثّل هذه المرة بهجرة اليهود الأوروبيين من فلسطين. ويجدر بنا أن نقتبس بالكامل المقطع الذي يقول فيه عميل الموساد الكبير الساخر: "ما فعلناه بالفلسطينيين شرير. لقد طردناهم من ديارهم واضطهدناهم. لقد طردناهم وضربناهم وعذّبناهم وقتلناهم. لقد كرّست الدولة اليهودية منذ ولادتها جهودها للقضاء على الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية وطرد شعب أصلي من أرضه. لقد طُرد الفلسطينيون وشُتّتوا وسيطر عليهم اليهود. ومن أجل إنشاء دولة يهودية، خنّا تاريخنا. لقد فعلنا بالفلسطينيين ما فعله المسيحيون بنا: حوّلناهم بشكل منهجي إلى آخر محتقر ومذلول، وبالتالي حرمناهم من حالتهم الإنسانية. وبغض النظر عن الإرهاب أو الإرهابيين، أو الغباء السياسي لياسر عرفات، فإن الحقيقة هي هذه: كشعب، فالفلسطينيين أبرياء تماماً، وكشعب فاليهود مذنبون تماماً".

الشتات المقترح في "عملية شايلوك" ليس خيالاً روائياً محضاً - كعادة كتابات روث الهجينة سردياً - بل يستند إلى مبادرة قام بها عشرات الآلاف من اليهود الذين فرّوا من إسرائيل في أوائل الخمسينيات. وصف أوري يهوداي، هذا الخروج اليهودي من "الأرض الموعودة" في كتابه "الخروج من صهيون: الهجرة اليهودية من فلسطين وإسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية". واستناداً إلى مصادر جمعها من 22 أرشيفاً في ستة بلدان، يوضّح أوري يهوداي أنه على الرغم من الرأي السائد بأن اليهود النازحين يجب أن يستقروا في الوطن اليهودي (إسرائيل)، فإن العديد من اليهود رأوا بدلاً من ذلك البلد كموقع للنزوح أو محطة على الطريق إلى أراضٍ أكثر جاذبية.

إن تفاهة الشر، وهو تعبير صاغته المفكّرة اليهودية حنة أرندت، يوضّح كيف لاستخدام وسائل بغيضة تبرير غايات أيديولوجية مريبة ومشكوك فيها. أدّت المُثل الأصولية، والتنافس على السلطة، ونوبات الانحطاط الإنساني إلى دفع العالم إلى كوارث متكررة. إننا نتعرض للهجوم من خلال صور ملوّنة في الوقت الحقيقي لإبادة الشعب الفلسطيني ومن ورائه كامل الشعوب "العدوة" لدولة الاحتلال الدائم. وباستخدام رواية كاذبة مدعومة بذكاء اصطناعي مزعوم من شأنه أن يكشف "الإرهابيين"، تستغل إسرائيل الوضع لقصف كتل كاملة من المباني السكنية والمدارس والمستشفيات، "حتى يتمكّن الإسرائيليون من النوم في سلام".

لقد أصبح قطاع غزة، في الخيال الجماعي (عبر وسائل الإعلام)، مرادفاً للجحيم. تبرّر حكومات الدول الغربية الهجوم الإسرائيلي على غزة كوسيلة للدفاع عن الحضارة من "الهمجية" الشرقية التي تشمل الإسلام والصين وروسيا. المجتمع الغربي، الذي تحيط به الراحة والرفاهية والأمن الظاهري، يراقب المذبحة الجارية وكأنه يشاهد برنامجاً ترفيهياً من تلفزيون الواقع، ويلعن أي ردّ فعل "غير مسبوق" آتٍ من الشرق.

هناك مَن يعتقدون أن ثمة فرقاً بين الصهاينة اليمينيين والصهاينة اليساريين. كيف لا يكون هناك فرق؟! بالطبع هناك فرق؛ فاليمين الصهيوني ليس منافقاً. يعتقد الصهاينة اليساريون أن العنف ضد الفلسطينيين بدأ مع اليمين في السلطة الإسرائيلية، وهم غير قادرين على إدراك أن العنف ضد الفلسطينيين كان دائماً يُدار من قبل حكومات حزب العمل اليسارية، التي أعلنت المساواة في الحقوق بين اليهود وغير اليهود، بينما كانت تذبح وتطرد وتستولي على أراضي الفلسطينيين.

برغم هذا التعويم والتعتيم والتضليل، ما زال هناك عدد قليل من الأصوات التي لا تتوافق مع وسائل الإعلام السائدة والشركات الكبرى وتتحدث صراحةً ضد البربرية الغربية في فلسطين. تبث قناة Just Vision، التي تأسّست العام 2003، مقابلات وتنتج أفلاماً تدين العنف الإسرائيلي وإزالة الطابع الإنساني عن الفلسطينيين. مجلة +972، التي تأسست العام 2011، مخصصة للصحافة المستقلة وصحافة المواطن، وتنشر تقارير ومقالات ومقابلات تكشف جوانب من التوحشّ الإسرائيلي. موقع Chamada Local، الذي تأسس العام 2014، موقع إلكتروني باللغة العبرية مخصص لصحافة نشطة تقدّر حرية المعلومات والتعبير. وهناك أيضاً موقع The Grayzone، الذي استهدفت إسرائيل أحد صحافييه مؤخراً، وهو موقع إخباري مستقل ينتج صحافة استقصائية حول السياسة والإمبراطورية والوحشية الإسرائيلية.

وفقاً لبريمو ليفي (كيميائي وكاتب إيطالي يهودي، وأحد الناجين من الهولوكوست)، كانت إسرائيل خطأً من الناحية التاريخية، دولة مصطنعة لم تنجح. يمكن قياس النهاية المؤلمة للصهيونية من خلال الاستخدام المتكرر والمضاعف للقوة الوحشية عندما لا تحقق أهدافها المتوقعة، وهو ما يشكّل خيانة كاملة للإنسانية والسلمية والأممية، والقيم القديمة لليهود في الشتات. ووفقاً لنعومي كلاين، لا يمكن حماية اليهودية من قبل الجيش الإسرائيلي الغاضب، لأن "كل ما يفعله هذا الجيش هو زرع الحزن وحصد الكراهية، بما في ذلك ضدّنا كيهود".