المنجّمون والحرب: من المعبد إلى الأستديو التلفزيوني

أحمد زين الدين
الأحد   2024/10/20
الممارسات التنجيمية، ما هي إلا مصدر قوة يلتمسها الضعيف
قبل أن تذرّ الحرب قرنها، احتل المنجّمون اللبنانيون الذين باتوا ينافسون كبار القادة السياسيين، والخبراء الاستراتيجيين، وما أكثرهم، مكانة أثيرة على شاشات المحطات التلفزيونية، ومواقع التواصل الاجتماعي. لهج الناس بأسمائهم، وتداولوا توقعاتهم الصائبة، وحجبوا الخائبة منها.

وأسهمت شبكة التلفزة بالترويج، لما أدلوا به في أوقات متفاوتة من الأعوام المنصرمة. وعمدت كل محطة، بهدف تكريس مُنجّمها المحظي، إلى عمليات المطابقة المفتعلة بين حدث سابق منتقى ومخصوص، وما تفوّه به المنجّم من كلام مبهم، حول توقيته وطبيعته وضحاياه والمتورطين فيه، ما جعله حمّال أوجه، يحتمل التأويل على أكثر من وجه أو رأي.

منجمون "مودرن" أعقبوا طبقة كهنوتية عريقة، وطبقة من العرّافين ومفسّري الأحلام والسحرة، كانت مقرّبة من الحكام والملوك وأولي الأمر، ومخوّلة بتفسير أحلامهم، واطلاعهم على أبراجهم ومقاديرهم، وطمأنتهم على متانة عروشهم ومناصبهم. وكان أفرادها يبيتون في معابد الآلهة، ويمارسون طقوس التطهير والصلاة والصيام والتضحية، بحكم انهم على تواصل دائم بالكائنات السماوية، وبكل ما هو إلهي، أو ذي دلالة على علامات القدر ونُذره، يتلقون منها النصائح والإرشادات، ويلتمسون المدد.

أما منجمو اليوم، في ظل التقدم التقني، فيتمتعون بهالة إعلامية، و"كاريزما" لم تكن ميسّرة للسابقين منهم في هذه المهنة. فهم أبطال المسرح في داخل الاستديوهات المضيئة، وأمام الكاميرات المشعّة، المركّزة على ملامحهم وتعابيرهم ونبراتهم وإيماءاتهم، يخاطبون المشاهدين المتلهفين لسماع كل ما يتلفظون به من نبوءات، وما يرسمونه من مآلات مصيرية يقف عليها مستقبلهم، ومستقبل ذراريهم.

عند مقاربته لظاهرة التنجيم، يرى عالم الاجتماع الفرنسي أرنو إسكير في كتابه "علم التنجيم في القرن الحادي والعشرين في فرنسا" أنّ شعوباً، حتى المتقدمة منها، لا تزال مثابرة على قناعاتها بتأثير الكواكب عليها، ولم تهزّها الطفرة العلمية والتقنية الحديثة. في حين أن بعضاً من علماء الإناسة الذين عالجوا هذه الإشكالية، عقدوا أواصر علاقة متينة بين التنجيم، بما هو ضرب من ضروب السحر، وبين النشاط السياسي. وعدّوا هذا القِران بين الجانبين، وسيلة من وسائل الحفاظ على السلطة، ما يعيدنا إلى التماثل مع أغراض الكهانة القديمة. واعتبرت تفاسير أخرى أنّ الممارسات التنجيمية، ما هي إلا مصدر قوة يلتمسها الضعيف، للتعويض عن قلة حيلته. أو هي تعبير عن هوية، يُخشى ضياعها في السياقات التي تخضع فيها الممارسات الدينية لرقابة صارمة. أو تلك التي تكتسحها تيارات العولمة الجارفة.

وقد لاحظ ارنو إسكير أن أكثر من نصف المواطنين الفرنسيين، يؤكدون أن علم التنجيم هو علم حقيقي. وأن ربع الذين شملهم الاستطلاع يقولون إنهم يؤمنون بالقدرة التنبؤية لعلم التنجيم، بينما يعتقد الثلث بتأثير النجوم على شخصية الأفراد. وللإجابة على هذه الأسئلة، استخدم المؤلف الأساليب الكمية والنوعية، وقام بجردة لأطروحات عن علم التنجيم المدرجة، في مكتبة فرنسا الوطنية، بين عامي 1890 و2010، ومقابلات أجراها مع نحو خمسة عشر منجّماً. وجمع ما كان يُنشر عن الأبراج الفلكية، في الصحف الموزعة على نطاق واسع، واطّلع على آراء استشارية في التطبيقات المتاحة على الهواتف المحمولة. وأخيراً حصل على تسجيلات لمحادثات بين مستشارين ومنجمين، امتدت جلساتها على مدى أعوام. ورغم أن قرارات ملكية في القرنين السابع عشر، والثامن عشر، حظرت التنجيم بموجب قانون العقوبات الفرنسي، لما يمكن أن تسببه ممارسة هذه المهنة من اضطراب في النظام العام، وزعزعة للسلطة، فإنّ مهنة العرّافين والمتنبئين ما لبثت أن استعادت مكانتها، والاعتراف بها تدريجياً. ويُظهر تحليل العديد من مجموعات الأبراج المنشورة، أنّ الاهتمام بهذه التنبؤات، لا يقتصر بأي حال من الأحوال على الطبقات المحرومة، أو على مجالات الثقافة المضادة. فهو يتجاوز جميع الدوائر الاجتماعية، بل إنّه يطغى أحياناً، على أحداث سياسية واجتماعية كبرى في العالم، إذ تذكر الباحثة كاترينا غينزي، أنه كان للتنبؤات الفلكية عشية استقلال الهند تأثير في تقديم الاحتفال بـ"ميلاد" الأمة الهندية إلى منتصف ليل 14 أغسطس، بدلاً من 15 اغسطس، بعد أن حذّر المنجمون الذين تمت استشارتهم، من أن هذا الموعد الذي حدده البريطانيون، هو يوم سيئ الطالع، وغير مناسب فلكياً. وترى الباحثة أنّ علم التنجيم، في الهند يتغلغل في كل مفاصل المعرفة الهندية، ويدخل في الحياة اليومية للعديد من الأفراد، ولا سيما بين الطبقات الوسطى والعليا، وفي المناطق الحضرية المعاصرة في الهند، من دون تمييز بين الفوارق الدينية والعرقية والثقافية والإيديولوجية.

كما أنّ أطروحتها "خطاب القدر" تلقي الضوء على نظام من الروابط اللانهائية، في إطار منطق فلكي، يقرّر مسار جميع الأشياء، على حدّ سواء. ويشمل الأفراد، والكواكب، والآلهة، والألوان، والطوائف، والأمم، وحتى الكلاب. وإذ يعتمد الحظ، او المصير الفردي، على المخطط النجمي للحظة الولادة، فإنه يدير مفاصل الحياة اليومية، كما يتضح في استراتيجيات الزواج التي يلعب فيها تفاوت أبراج الخاطبين، سلباً أو إيجاباً، دوراً مهماً في قبول الشريك أو رفضه. وبشكل أكثر عمومية، فإن الروابط بين علم التنجيم والطرق الهندية الأخرى لشرح قوانين العالم، ومراعاة التصرّف بناءً عليها، تشكّل حقلاً دراسياً واسعاً جداً.

ومع أنّ علم التنجيم يقوم على مبدأ ديناميكي ثابت، هو افتراض ممارسة تأثير النجوم على الإنسان. سواء أتمّ تصور النجوم كعلامات، أم كمؤشرات للمستقبل، فإنها عناصر نافذة تشارك في بناء الشخصية، وتؤثر على مصيرها، حيث يُنسب إلى كل كوكب من هذه الكواكب الإثني عشر علامةٌ من العلامات، وعدد معيّن من الخصائص المحددة والثابتة.

ويعتمد التنجيم في المقام الأول على العلاقات المتزامنة، بين وقت ولادة المرء، وارتباطها بموقع النجوم والمنازل الفلكية المبنية على وضعيته الجسدية.

ومع ذلك، فقد ابتعدت الأبحاث الحديثة عن دراسة الاعتقاد باعتباره قناعة ثابتة ومضموناً صحيحاً، ونظرت إلى فعل الاعتقاد، على أنه عملية ديناميكية وأدائية متعددة الوجوه والأبعاد، ومتغيّرة في درجات شدتها ولينها. وإذا كان التنجيم قد فقد سمعته السابقة كعلم مكرّس، إلا أنه ما يزال يستمد شرعيته العلمية من النسب الفلكي.