محمود عبدالغفار مُترجِم الفائزة بنوبل: الأدب الكوري مضمّخ بالشِّعر

أحمد شوقي علي
الإثنين   2024/10/14
"تمتلك هان كانغ حساسية عظيمة جدًا باللغة، ومعرفة ووعي عميقين بالتراث الكوري الرسمي والشعبي"
يتفوق النص في كثير من الأحيان، على كاتبه. فهناك مثلًا جيروم ديفيد سالينجر، صاحب "الحارس في حقل الشوفان"، الرواية التي عاش بفضلها ولم تعش بفضله. رغم ذلك لا توزَن أهمية ذلك النص عند الحديث عن قيمة ترجمته، التي ما زال المتلقي حائرًا في تصنيفها إبداعًا موازيًا أم نقلًا للنص في لسان آخر. الأمر بسيط للغاية، عليك فقط قراءة "مائة عام من العزلة" في ترجمة سليمان العطار، ومقارنتها بأي ترجمة أخرى. أو أن تتكبد المرَّ في استيعاب "صحراء التتار" بترجمة معن مصطفى الحسون.

تسيطر مثل تلك الفرضيات على الذهن عند لقاء مترجم يستوعب نصه ولغته التي ينقل عنها، مثل د.محمود عبد الغفار، مترجم "النباتية" للكورية الجنوبية هان كانغ التي فازت بجائزة نوبل للأدب قبل أيام، عن "نثرها الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة الإنسانية". ولعل الحديث مع عبد الغفار، الحاصل على ماجستير في الشعر العربي الحديث في جامعة القاهرة، ودكتوراه في الأدب المقارن في كلية العلوم الإنسانية بجامعة "ميونغ جي" بكوريا الجنوبية، يترجم ذلك المعنى أيضًا، بما يمتلكه من وعي باللغة ومنطقها لا يظهر فقط في ترجمته "البديعة" لأعمال كانغ وغيرها من الأدباء الكوريين.

وفي هذا الحوار الذي أجرته معه "المدن"، غداة إعلان فوز هان كانغ، يتحدّث عن مسيرة الكاتبة، وأثر فوزها في الأدب الكوري، والتحديات التي تواجه ترجمة أعمالها. كما يسلط الضوء على أهمية الأدب الكوري في المشهد الأدبي العالمي، وكيف أن هذا الفوز يفتح الباب أمام المزيد من الاهتمام بالأدب الكوري وتنوعه:

- هل كنت تتوقع هذا الفوز لهان كانغ؟

* مثل تلك الجوائز يبدو من الصعب جدًا التكهن بنتائجها. رغم ذلك فإن التكهن بتفوق الأدب الكوري ليس بالقدر نفسه من الصعوبة.
التقيت كانغ للمرة الأولى العام 2014، في ورشة تدريبية نظمها المعهد الوطني الكوري. قرأنا لها في ذلك الوقت رواية عنوانها "الصبي عائدًا"، تُرجمت إلى الإنكليزية والعربية في ما بعد بعنوان "أفعال بشرية".
كانغ كاتبة مميزة ومثقفة جدًا، لكن ما أريد أن أقوله إنها وجيلها من أبناء التسعينيات استفاد من كل ما أتيح له داخل كوريا وخارجها، وشاركوا في الكثير من الورشات الإبداعية في شتى أنواع الكتب وفي العديد من بلدان العالم. على سبيل المثال أذكر ورشات لـ"عنونة" الرواية أو ديوان الشعر.
في العالم العربي عندما ينتهي كاتب من نصه فإنه يتوجه إلى فايسبوك كي يسأل أصدقاءه اقتراح عناوين له. وهذا فعل غير علمي بالمرة، ونتخيل أنه موضوع بسيط، لكنك عندما تراجع عناوين نصوص أولئك الكتّاب ستكتشف كيف أنها بديعة جدًا. كانغ وعدد كبير من الكتاب الكوريين يستحقون التكريم طبعًا. لمّا حصلت كانغ على "المان بوكر" في 2016، كانت خطت خطوة كبيرة نحو العالمية.

- ما الذي يميز أسلوب هان كانغ؟ وكيف أثّرت هذه المميزات في عملية الترجمة؟

* هان شاعرة وكاتبة، وذلك ليس أمراً فريداً في المجتمع الأدبي الكوري. كثير من الروائيين يكتبون الشعر، وكثير من الشعراء يكتبون بين الحين والآخر القصص والدراما التلفزيونية والروايات، هم يملكون هذه القدرة، ويملكون -بحكم الخبرات والدراسة الجادة- وعيًا حقيقيًا بالفروق النوعية بين الألوان الأدبية المختلفة، وأين وكيف يمكن استغلالها لصياغة أو تجسيد مشكلة أو قضية معينة: هذا يناسبه الشعر وذلك يناسبه الرواية أو القصة القصيرة، فليست المسألة مجرد فروق شكلية بالنسبة إليهم. تمتلك هان كانغ حساسية عظيمة جدًا باللغة، ومعرفة ووعي عميقين بالتراث الكوري الرسمي والشعبي، وتستفيد من ذلك كله في التعبير عن الهموم التي تشغلها وتشغل المجتمع الكوري والمجتمع الإنساني بشكل عام، عبر القصص والروايات التي تكتبها. كاتبة مثلها تكون ترجمة أعمالها وظيفة صعبة. لأنك تصبح أمام عمل معجون بعناصر ثقافية مدهشة لا يجب أن يُهمَل أي منها عند الترجمة، ويجب أن تبحث عن كل وسيلة تمكنك من فهمها، ثم الإشارة إليها في حواشي الترجمة، حتى تقربها ثقافيًا من المتلقي، حتى وإن لم يكن لها تأثير في قراءة المتن، فإنها ذات تأثير بالغ في استيعاب وربط الموضوع بخصوصية الثقافة الكورية.

أين تقع هان كانغ في خريطة الأدب الكوري المعاصر؟ وكيف تقارن بأعمال الأدباء الكوريين الآخرين؟

* كانغ في صدارة الكتاب الكوريين المرموقين منذ فوزها بالبوكر في 2016. وفوزها مهد الطريق أمام ذلك الجيل من الكتّاب للانطلاق إلى العالمية. قابلت أكثر من 15 كاتبًا من أبرز الكتّاب الكوريين في مجال الشعر والسرد في السنوات العشر الأخيرة، وذلك بترتيب من المعهد الوطني الكوري، من خلال الورش التي ينظمها للمترجمين حول العالم. صحيح أن كانغ كاتبة كبيرة وعظيمة تتصدر المشهد، لكن ثمّة كتاباً عظيمين آخرين. وهناك في كوريا شعراء عظام يستحقون جائزة نوبل، وإن كنت لا أعرف الأسباب التي تعيق حصول الشاعر على هذه الجائزة في هذا الزمن. أذكر في هذا الصدد شاعرة كبيرة من الثمانينيات، من مواليد 1941، اسمها كيم سنغ هي، لهذه الكاتبة نصوص ذات مواقف وتصورات عن الإنسان وهمومه بغض النظر عن الجنسية والخصوصية الكورية، وترجمتُ لها ديوانين إلى العربية، الأول بعنوان "الحياة داخل بيضة"، والثاني "الأمل وحيدًا". وهي تستحق بكل أمانة أن تنال هذه الجائزة.

كما أن لديهم شاعراً عظيماً جدًا، هو "وحش شعري جبار"، يذكرني بالعظيم الذي لن يتكرر أحمد شوقي، اسمه كو أون، يكتب تاريخ الأماكن والإنسان بالشعر، وله كتاب ضخم على غرار ألف ليلة وليلة عنوانه "ألف حياة وحياة"، عبارة عن 20 مجلداً. ترجمتُ له عملين بالعربية الأول "أماكن خالدة"، والثاني "قصائد الهيمالايا". وهناك أيضًا الشاعر العظيم كيم كوانغ وترجمتُ له "رحلة إلى سيول". بكل أسف، جائزة نوبل لا تُمنح للشعراء بقدر ما تُمنح للروائيين. هذه الأسماء تستحق نوبل كما استحقتها كانغ، وأتوقع أن يكون هذا الفوز بداية لسلسلة من الفوز للكتاب الكوريين في المستقبل القريب.
ولا أنسى الشاعر العظيم كيم كوانغ الذي ترجمتُ له "رحلة إلى سيول". بكل أسف نوبل لا تذهب للشعراء، هذه الأسماء تستحق نوبل كما استحقتها كانغ، وأتوقع أنها لن تكون المرة الأخيرة التي يحصل فيها كوري(ة) على نوبل في الزمن الحالي، ربما عقد يقل أو يزيد قليلًا، وسينالها أحد الكتّاب الكوريين مرة أخرى.

هل ثمة اتجاهات معينة في الأدب الكوري تجذب اهتمام الجوائز العالمية؟

* لا أتصور أن كاتباً حقيقياً يكتب لأجل نوبل أو غيرها من الجوائز. ولكن بحكم دراستي لنظريات الترجمة، أستطيع القول إن الأدباء الكبار الذين ترشح أعمالهم للجوائز العالمية أو تترجم نصوصهم إلى لغات أخرى، يملكون لغة غير متكلفة يمكن للمترجمين تلقفها ونقلها إلى لغاتهم بسلاسة، بمعنى أن هؤلاء الأدباء يتحاشون الإغراب اللغوي والإغراق في الصور المجازية التي يصعب نقلها إلى لغة غير لغتها، فتميل كتابتهم إلى السلاسة، وبالمناسبة لا يؤثر ذلك في المضامين أو الموضوعات أو القضايا التي يهتم بها الكاتب، لكن اللغة تتغير. الأدب الكوري لديه نزوع إنساني يتجاوز مسألة العرق والجنس والعقيدة إلى البحث عن هوية الإنسان، وإن استخدم واقعه المعاصر لإدراك تلك الغاية، فيصبح حينها المعنى مسألة إنسانية عامة والأشخاص الذين ينقلون ذلك المعنى أو يتحاورون بشأنه أو يتصارعون فيه أو عليه، هم كوريون. في نهاية المطاف نشعر عندما نقرأها أنها هموم ومشكلات وصراعات للإنسانية في كل مكان على كوكب الأرض.

كيف ترى تأثير ظاهرة الموجة الثقافية الكورية (Hallyu) في انتشار الأدب الكوري عالميًا؟ وهل تعتقد أن هذا الانتشار الثقافي الشامل، بما في ذلك فنون "البوب" الكورية، لعب دورًا في لفت أنظار لجنة نوبل إلى أعمال هان كانغ؟

* أستبعد وجود شخص واحد في لجنة التحكيم لا يمتلك آلة صنعت في كوريا أو اليابان أو الصين. كما لا أتصور أن يخلو بيت على وجه الأرض من منتجات تلك الدول، لذا أعتقد أن التعريف بكوريا وثقافتها، أو الإخلاص والدقة الكوريين في الصناعة والاقتصاد، حاصل بالفعل بحكم ما نراه في شوارع العالم كله. صنعت موجة "هاليو" ما يشبه الصدمة، عدا الذين تصوروا أن ذلك المجتمع ينتج فقط السيارات والأدوات منزلية، ولا يستطيع أن ينتج فنًا أو ترفيهًا. دهش العالم بدراما تلفزيونية ومشوقة، وأفلام تبلغ مصاف العالمية وتحصد الأوسكار، وأغنيات خفيفة ورشيقة بموسيقى ولغة يفهمها ويتعاطاها الشباب في العالم كله. تذكر ذلك الشاب الكوري "ساي" الذي غنى "غانغام ستايل". هذه الأغنية شاهدها نصف كوكب الأرض خلال شهور معدودة جداً، وصنع منها نسخًا محلية في مختلف البلاد؛ موجة هاليو لفتت النظر بقوة إلى أن هناك فناً جاداً لا يقل جدية عن الإنتاج التكنولوجي والصناعي. وهذا كله أضاف جاذبية على الثقافة الكورية كلها حتى بالنسبة لمن لا يدرسها.

- كيف تصف تجربتك في ترجمة أعمال هان كانغ، وما التحديات التي واجهتك بشكل خاص في هذه الأعمال؟

* كانت تجربتي مع ترجمة "النباتية" بديعة جدًا، واستفدت منها الكثير. يبدو العمل في ظاهره ذو بناء سردي بسيط، فهي رواية تناقش حدثًا من ثلاثة مناظير مختلفة، مما يجعل الحبكة والثيمة تبدوان مألوفتَين في البداية، لكن اللغة والشاعرية البادية في الصور المشهدية، والتنقلات بين العبارات وطريقة إسناد الحوار إلى المتكلمين، والربط بين ذلك كله في غاية الإدهاش.
كذلك الفكرة المطروحة مهمة، فهي تناقش حق المرأة في مجتمع يبدو للعالم مجتمعًا ديموقراطيًا حرًا، وهذا حقيقي في بعضه، لكن أيضًا هناك أموراً مطمورة ليس من السهل أن يعرفها إلا الذين يعيشونها من أصحاب تلك الثقافة. المرأة الكورية عانت وتعاني تحت سطوة ذكورية كانت قوية وظاهرة في الماضي، وما زالت باقية حتى الآن وإن غُلفت بغلاف ديموقراطي. في عقول الفتيات اللواتي نشأن في السبعينيات وما قبل، ثمة مشاهد كثيرة عن العنف عالقة في الأذهان، ومن بينهن هان كانغ المولودة في 1970، التي رأت وشاهدت وسمعت ورصدت باعتبارها كاتبة تستقي من تجارب الآخرين ومن قراءاتها ومما عاينته بنفسها. أتصور هذه التجربة تخبر الكثير ليس فقط عن الثقافة والمجتمع الكوريين، وإنما أيضًا طريقة الكتابة والبحث عن الجديد من منظور زاوية التناول وحرية الكتابة، الكاتبات من أمثال هان كانغ لا يخَفن وليست لديهن تابوهات اجتماعية أو عقائدية أو لغوية.
عندما بدأت الاشتغال على ترجمة النص، واجهتني تحديات كثيرة، أبرزها التعامل مع مستويين لغويين داخل الرواية، التي تضم مشاهد ومقاطع نثرية كتبت وكأنها قصائد، حتى إذا اقتطعتها من سياقها ووضعت لكل نص منها عنواناً ضمنته داخل نص أكبر، سيكون لديك ديوان شعر من 10 أو 15 قصيدة. هي مشاهد مكتوبة بلغة بالغة الشعرية، وهذا أمر ليس سهلًا نقله. لا بد للمترجم أن يمتلك حسًا شعريًا مماثلًا، ويستطيع التفريق بين اللغة العادية ولغة الشعر، وأدعي أني أمتلك هذا الحس، لأني أيضًا أستاذ الشعر الحديث في كلية الآداب بجامعة القاهرة.

ما أهم الكتب الكورية التي تنصح بقراءتها؟ وما الأعمال التي تتمنى ترجمتها في المستقبل؟

* أنصح القراء العرب بالعديد من الأعمال الكورية، لا سيما الشعر، مثل أعمال كو أون، وكيم كوانغ كيو، كما أنصح بقراءة ترجماتي لأعمال الشاعرة الكورية العظيمة التي تستحق نوبل، كيم سينغ هي. ما قدمته هان كانغ من مزج بين السرد والشعر ليس حكرًا عليها، بل هو اتجاه أدبي شائع بين العديد من الكتاب الكوريين الذين يتقنون كلا النوعين الأدبيين، ما يمنحهم لغة قوية وقادرة على الإبداع. كذلك أتمنى ترجمة شعر هانغ جانغ، لأني اشتريت الديوان واصطحبته فور صدوره من كوريا ولانشغالات كثيرة لم أشرع فيه، وأتصور أنه سيكون واحداً من المشروعات المستقبلية القريبة جدًا، وأتمنى أيضًا الاهتمام بعدد من الكتّاب والكاتبات الذين التقيتهم في المعهد الوطني لترجمة الأدب الكوري منذ وقت قريب وجلبت نصوصهم لأعكف على قراءتها وترجمتها، وبالتالي أتصور أن عندي عدداً من النصوص التي آن الأوان العمل عليها تلبيةً لنداء الحاجة العربية الماسة لمعرفة المزيد عن الأدب الكوري.