إلياس خوري: الأدب فعل روحي...والأديان أبدعت أعمالاً أدبية كبيرة

ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
الثلاثاء   2024/10/15
مشكلة الأديان تكمن في جمعها بين الروحانية والسلطة ونحن في الأدب اكثر روحانية
هذا الحوار الذي نقدم ترجمته العربية عن الأصل الإنكليزي مع الروائي والاكاديمي والناقد اللبناني إلياس خوري، الذي غادر عالمنا قبل أسابيع، يقترب من الأسئلة والإشكالات التي هيمنت على تجربة مبدع "باب الشمس" و"أولا د الغيتو" في الرواية والنقد الأدبي والنضال السياسي والإبداعي من اجل فلسطين وحقوق شعبها. يُذكر أن طوم زولنر كاتب وأكاديمي وأستاذ الآدب الإنكليزي في جامعة شابمان الأميركية. نشر الحوار في مجلة لوس أنجليس للكتب.

النص
"آدم" هو الجزء الأول من الثلاثية الروائية المخصصة للنكبة وهو الاسم العربي الدال على التهجير القسري للفلسطينيين خارج الحدود الجديدة لدولة إسرائيل العام ١٩٤٨. وقد رأى بطل الرواية آدم النور في بلدة اللد التي ستتحول لفترة قصيرة إلى مسرح لحياة رعب حقيقية وتهجير جماعي ومسيرة قسرية طالبت بعودة المئات.

يتعلق الأمر برواية استثنائية لأسباب عديدة؛ اذ تستهل بانتحار آدم في شقة في مدينة نيويورك. وتقفوها ملاحظة بتوقيع الياس خوري يقول فيها بأنه عثر على رواية ادم غير المنشورة ويقدمها هنا للقراء. لكنها وثيقة غريبة. يبدأ ادم بدراسة طويلة لشعر وضاح اليمن ويزاول عمله وهو يحمل في داخله "عربياً نائماً" وعلى الرغم من تجاهله وتناسيه للإحباط الناجم عن قصة حبه وعمله في مصنع إسرائيلي للفلافل وحلمه بحياته المعقدة السابقة في إحدى بلدان الشرق الأوسط. ولم يلبث أن كان الحظ حليفه حين التقى بأستاذ جامعي اسمه مامون روى له تفاصيل صادمة من طفولته. وفي غمرة أزمته الشخصية يشرع ادم في تخيل سقوط اللد في الاسر ومعاناتها من ذلك. وتكون المحصلة روايةً رائعة من حيث بنيّتها ومقصديتها وتخييلها وطريقة كتابتها التي لا تعتمد الشكل الكلاسيكي وقدرتها على فتح نافذة على الألم والذاكرة.

يتحدث الياس خوري عن روايته بإسهاب واستفاضة لافتين للانتباه. ويبدو في السياق أشبه بمن يتهيأ لممازحة من يصغي اليه على حين غرة. كان هذا الحديث في إحدى مقاهي ساحة ساسين في بيروت.

طوم زولنر: يبدأ آدم كتابة هذه الرواية مرة تلو أخرى. هل يمكننا عدها والحالة هذه رواية البدايات المغلوطة المتعددة؟

الياس خوري: ثمة الصمت وانت الآن تسائل الصمت وتسعى إلى البداية وهو ما يعتبر تحققه مستحيلا. أعتقد أنه ليس ثمّة من وجود لبداية. وما يجعل الكتابة ممكنة وقابلة للإنجاز فيما يهمني هو اعتقادي في عدم وجود بداية ما دام ليس ثمة من نهاية. وانت تنهي رواية ليس بسبب استشرافها لنهايتها وإنما لانه لم يعد لديك ما تضيفه. لكن الرواية سوف تستمر بمعزل عنك وتبدأ قبلك. ويتحدّد معنى البداية كما أتصوّره في طريقة بحثك عنها. وهكذا أتصور اشتغال التخييل. يستحيل العثور على نهاية وكتاب الرواية هم أكثر الكائنات صرامة؛ اذ يعمدون إلى قتل أبطال رواياتهم كي يضعوا نقطة النهاية. ولكنني أحب شخوص أعمالي  كثيرا وأعتقد في وجودهم والانفصال عنهم شاق وصعب ليس بسبب انهم أصبحوا جزءاً من كلماتي وانما لأني أصبحت جزءا منهن. قال لي احد النقاد مرة: إني افهم الان؛ فآدم يتحدث مثلك. أحبته: الاصح ان تقول انني اتحدث مثله وواقع تحت تأثيره.

طوم زولنر: كيف في مقدورك أن تكون عدوانياً مع من تحبّ؟

إلياس خوري: ولهذا السبب اكره النهايات. يموت آدم في بداية الرواية؛ وبهذا الصنيع لا تكون النهاية معادالة لموته وأشعر بالأسف حياله. وقد أفصح عن عداونية شديدة تجاهي وكان راغباً في أن يحقد تلميذه عليّ لاعتقاده بانني احتفظ بمشاعر خاصة تجاه الفتاة. وقد انتهى كلانا بالفشل معها. وأشعر الآن بعد كل ما حدث بالحب حياله وبالافتتان بقصته. واعتقد بأنه شخصية تراجيدية.

طوم زولنر: اعتقد أنه مهووس بعمره.

الياس خوري: يقول بأنه يتعين عليك ان تحزم أغراضك حين بلوغ الخمسين وان تتهيأ للنهاية. ابلغ من العمر سبعين عاماّ ولا ينتابني ذاك الإحساس. ويتعين علينا ان نعطي معنى لعمرنا إلا إذا بدأ جسدنا في الانهيار. الحياة جميلة ولكل مرحلة من العمر ملاحتها وأن تكون قادراً على تأليف كتاب أمارة كرم من الحياة. 

طوم زولنر: آدم هو اكثر من عرفت من الروائيين تردداّ، وهو يلح باطراد بانه لا يكتب الرواية.

الياس خوري: كان جدياً في ما يهم رفضه كتابة الرواية. وقد التزم بذلك فعلا. كانت المسودة الأولى متعلقة بحكاية الشخص المجهول الذي مات داخل صندوق ثم التقى عقب ذاك بالمخرج السينمائي الإسرائيلي وساوره الظن بانه لم يرو حكاية الجندي الذي أقدم على الانتحار كاملة. ثم التقى بعد ذلك بالمأمون الرجل الاعمى الذي تعرف عليه حين كان طفلا. وفي تلك اللحظة قرر بأنه لا جدوى من كتابة التخييل وأن يروي الحكاية الحقيقية. وقد توسل في هذا المسعى بخليط من الأشياء تتوزع بين النقد الأدبي والتأمل والقفز من موضوع لاخر. كان يكتب بطريقة حرة لأنه لم يفكّر اطلاقاً بأنها سوف تنشر. وتعيدنا هذه البنية إلى البدايات الأولى للرواية قبل التيارين الطبيعي والواقعي. كانت دون كيخوتي مزيجا من الأشياء. وهي تعيدنا أيضا إلى بدايات الرواية العربية مثل "الساق على الساق" للشدياق الذي يوظف اليوميات والشعر والنقد الأدبي في حكاية واحدة. وهي تشكل بهذا الصنيع محاولة لتجاوز البنية الكلاسيكية للرواية. 

طوم زولنر: في داخل آدم نصيب قوي مما هو أكاديمي؛ إذ لا يكف عن الاستشهاد بمقالات الجرائد.

الياس خوري: لأنه كان أستاذاً وأكاديمياً. فهو مواطن إسرائيلي حصل على التبريز في الادب العبري من جامعة حيفا. كان علاوة على ذلك صحافياً متخصصاً في الموسيقى في مجلة فنية. وكان جزءاً من الانتجلنسيا الثقافية في إسرائيل.

طوم زولنر: لماذا بدأت بقراءة نقدية موسعة لوضاح اليمن ولماذا ختمت بسلسلة من المشاهد مثل كاتب سيناريو؟

إلياس خوري: رفض مراد في البداية أن يتكلم لكن آدم حثه على ذلك، وكان إن فعل في شكل مشاهد؛ اذ لم يكن في وسعه الحديث بسرد متسلسل. كان غاضباً من آدم لانه لم يتذكره. كان غيتو اللد ثقباً اسود في الذاكرة الفلسطينية؛ اذ مثل إحدى التجارب الأكثر قسوة في النكبة منذ ١٩٤٨. وكان من العسير الحديث عما عاشوه. وكان البحث الذي أجريته طويلاً وصعباً لان الشعب الفلسطيني يرفض الحديث عن البدايات. ولا تتوفر إلا على أشياء قليلة من هذا أو ذاك. ووحده الادب الاسرائلي من أشار إلى هذا النزوح الجماعي والمسيرة الطويلة التي أرغب في الكتابة عنها في الجزء الثالث.

طوم زولنر: لا إحالة إلى إسحاق رابين او دافيد بن غوريون.

إلياس خوري: لا. كانا من الزعماء ولم يكونا من القاعدة. لست مؤرخاً ولست مهتما بكتابة تاريخ اللد وانما بتدوين ما شاهده وشهده الناس. وعليه لا فائدة من ذكر رابين. وما تقوله الرواية يرتبط بما شاهده الناس وكيف عايشوا سقوط المدينة وتسييجها بالأسلاك الشائكة. وقد وقع اختيارهم على مجموعة من الصبية كي يقوموا بعمليات التنظيف وجمع الجثث والسرقة. كان جان جينيه في شهادته عن مجزرة صبرا وشاتيلا يشير إلى الذباب وكانت شهادات ساكنة اللد تجمع بدورها على وجود الذباب. كانت المدينة غاصة بالجثث وقد استلزم تنظيفها شهرين. كنت أسعى إلى تقليد ومحاكاة الرمزية. قيل لآدم انك استعارة لفلسطين وقد استشاط من جراء ذلك غضبا، بيد اننا جميعا استعارات. من الذي في مقدوره وضع حدود للكتابة؟

طوم زولنر: يقول آدم: ذاكرة الألم اقوى واقطع من الألم نفسه. هل ينطبق ذلك على الإنسانية كلها ام يتعلق فقط بالنكبة؟

الياس خوري: ليس ثمة خصوصية حصر على النكبة؛ لانها تجربة إنسانية. والصدمة المترتبة على النكبة يمكن مقارنتها باية نكبة أخرى. ويبقى الصمت البطل المهيمن على كل الرواية وأعني هنا صمت الضحايا وليس الفلسطينيين بشكل خاص. وقد صمت اليهود بدورهم. نحن أنماط من الوجود الإنساني ونجتاز لحظات مأسوية. والألم الحقيقي مرتبط بالانفصال المؤلم عن الأرض ويكون هذا الام مرتبطاً بأي شخصيتى تهجيره بالقوة. وتتحدّد القيمة الأهم للادب في ان لا يفصح عن الحقيقة النهائية التي لا اعتقد في وجودها. ومنذ جلجاميش والنصوص الملحمية الاْولى فان حقيقة اللحظة ما تفتأ تخاطبنا. لم أعد أؤمن بهاته الآلهة التي قتلها التاريخ.

طوم زولنر: يصف آدم شقته في مانهاتن بأنها أصغر من نافذة مغمورة بالثلج ويصفها بأنها مدينة بدون تاريخ. ما الذي فعلته نيويورك لهذه الشخصية؟

إلياس خوري: كانت ملاذاً. وقد ذهب إلى نيويورك؛ لأنه كان في حاجة إلى الهروب. وقد فشلت كل محاولاته كي يصبح مواطناً إسرائيلياً. وقد عثر في نيويورك على حكايته الحقيقية اثر لقائه بمأمون. كان يملك مطعماً في نيويورك وقد توسل بهذه المدينة كي يكتب عمله الكبير الخاص بالشعراء وقد سعى إلى سرد حكاية الفلسطينيين بوصفها استعارة كبيرة لكنه وجد نفسه عوضاً عن ذلك غارقا في حكايته الخاصة. ولهذا السبب مثلت نيويورك بالنسبة لآدم نافذة مغمورة بالبياض بحكم رغبته في تغيير حياته واسمه والتحول إلى مثقف يصنع الفلافل.

طوم زولنر: تنتمي إلى أسرة مسيحية.

إلياس خوري: أنا مسيحي ولكنني ملحد كلية. أعتقد أن الأدب فعل روحي وأن الأديان أفلحت في إبداع اعمال أدبية كبيرة. لا يتعلق الأمر بالقرآن فقط. ثمة سور قرانية تسحرني وتفتتني ولكن حكايتي سليمان وأيوب في العهد القديم عملان أدبيان كبيران. ومشكلة الأديان تكمن في جمعها بين الروحانية والسلطة ونحن في الأدب اكثر روحانية؛ لأننا تحررنا من السلطة. الروحانية حاجة إنسانية، وفي المسيحية مذهب مندثر تزعمه الراهب نسطور ويقول بأن المسيح إنسان أصبح مقدسا وليس العكس؛ وتلك لعمري الصيغة الأفضل للمسيحية. ووفق هذا المعنى يتحول يسوع إلى أدب جميل ووجه روحاني. وأعتقد أن أفضل قيمة في الإنسان هي الحبّ. وقد تحدثت كثيراً وفق هذا المعنى عن يسوع في أعمالي الروائية الأولى. وكثيراً ما أتردّد على الكنيسة لا لكي أصلي وإنما لكونها فضاء جميلاً.