الحب كمأزق

فوزي ذبيان
الخميس   2023/11/09
لا يستجيب مفهوم الحب للحد الأدنى من توقعات القارىء بحسب قراءة فنكييلكرو لهذا المفهوم. فالحب في هذا الكتاب خرج عن كونه تلك العلاقة التي تقوم بين الأنا والآخر ليكون بمثابة واقعة مرآوية إزاء علاقة المرء بنفسه بالدرجة الأولى. 

يتجاوز الكتاب في بعض فصوله البعد الفردي للحب ليغوص بالتالي في تلك العداءات التي قد استحكمت تاريخياً بين جماعات مختلفة من البشر متوقفاً بشكل خاص عند علاقة النازية باليهود فضلاً عن أيديولوجيات أخرى أسست لجدل كراهية/ حب في طول القرن العشرين وعرضه.

ينطلق مؤلف الكتاب من عدة تأويلية، لا تستنطق النصوص فحسب إنما أيضاً تموضعها بما يتلاءم مع غرض فنكييلكرو فإذا بنا إزاء ما يمكن أن نطلق عليه التأويلية البراغماتية ولا بأس بهذه الإستراتيجية في القراءة والتأويل... فالحب في هذا الكتاب هو حقل من الدلالات التي تستبطن دلالات أخرى وتقصّيه بالتالي ألزم الكاتب بهذا النمط من التأويل المفتوح. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه القراءة تحدّ نفسها ليس بالعلاقات الجماهيرية إنما فقط بالعلاقات الفردية التي ناقشها الكتاب.

تطالعنا الصفحة الأولى من "حكمة الحب" (منشورات دال، دمشق) بالسؤال التالي: "مَن هو الذي ما زال يأخذ وجود تصرفات طوعية على محمل الجد؟"، ليغوص بعدها بمرجعيتين أساسيتين في مقاربته للحب: إيمانويل ليفيناس ومارتن هيدغر.

لا يستوي الكتاب منذ بداياته الأولى حتى الصفحات الأخيرة منه مع تلك المقولة التي ترى أن الذات البشرية تمتلك حقيقة قائمة بذاتها ليرهن بالتالي تلك الذات إلى التاريخ حيث الغياب مرادف للحضور وحيث التشرذم مرادف للإنضباط، لنكون من ثم أمام ذات مرهقة على الدوم بغيريتها، بـ"آخرها" وبمراوحتها بين كينونتها ومضاداتها... إستطراداً: لا ذات ثابتة إلا بالقمع (جيل دولوز).

مع التوغّل في كتاب "حكمة الحب" قد تستبدّ بمتلقي الكتاب حيال الوقوع في الحب العبارة التالية: "شُو بَدّي بهل شغلة!!!" ولا سيما في تلك الفصول التي يخصصها فنكييلكرو لثيمة الوجه حسب التداول اللفيناسي لهذه الثيمة. فالوجه في هذا المحل يستدعي المغايرة إلى أقصى الحدود. إن وجه الحبيب هو حقل من المغايرات الواضحة والغامضة والتي تقع بين بين، وهي مغايرات غالباً ما لا تستدعي الركون إلى الشعور بالطمأنينة أو الأمان كما قد يقع به الظن، ذلك أن الطمأنينة في هذا الحيز وبصرف النظر عن عمق العلاقة ومتانتها تراها تستوي فوق حقل لا متناهي من الهمس الخافت والذبذبة، فالآخر هو سر بالإجمال كما يقول ليفيناس. إن  وجه الحبيب كحقل مغايرة يفر من حقل التنبؤ بل تراه يعزز بشدة تلك الأسئلة التي تنطوي على إشكاليات تتعلّق بعلاقة الأنا مع نفسها بالدرجة الأولى... فالحبيب هنا هو جملة من الأسئلة المنطوية على نفسها من قبل الأنا لكنها أسئلة مجسدة في الطرف الآخر من العلاقة.

من المفارقات أن فنكييلكرو يستعدي كل التصورات الفرويدية حيال علاقة الأنا بذاتها ذلك "أن الكليشيهات الفرويدية تربك معرفتنا بالإنسان"، وانطلاقاً من هذا الإستعداء يرى مؤلف "حكمة الحب" أن "مأسوية إرتباط الإنسان بنفسه" يتأسس ليس على المصنّف الفرويدي وما شاكل إنما وبحسب فنكييلكرو للمواضيع، إن هذه المأسوية تتأسس على السرديات التاريخية للأنا وعلى المعطيات الثقافية، والمسكوت عنه في كتاب "حكمة الحب" أن مفهوم الثقافة يقوم على ما يسميه أحد علماء الإجتماع، "الأنثروبولوجيا الرمزية" (كليفورد غيرتز)، حيث ينظر إلى الثقافة في هذا الصدد على أنها نظام رمزي ينبعث أساساً من كيفية تأويل البشر للعالم الذي يعيشون فيه والوجه في هذه الرؤية هو رمز تحايثه جملة من الرموز المركزة تارة والمتلاشية تارة أخرى.

إن وجه من نحب يحمل بطياته ماضي وحاضر ومستقبل نظرات عيون هذا الوجه، وبالتالي أن كل علاقة تستبطن سعي كل من طرفي العلاقة لإمتلاك مشهد الماضي والحاضر وترتيب نظام رؤية ما سيلي من ايام... أيضاً وأيضاً، إنه الغياب الذي يؤسس وهم حضور العلاقات المستوية، وهم حضور الآخر (الحبيب) بكليته. إن التملي في وجه الحبيب ومعاينة قسماته يرتقي بالحواس في هذا السياق عن محض المعطى المادي إلى عالم التخييل، فهذا التملي هو بالعمق استحضار التاريخ المُشتهى للعين وللقلب وللرغبة بعامة من قبل شركاء العلاقة حيال بعضهما البعض وحيال تشابك الأجساد فوق الأسرة وفي النور وفي العتمة. إن وجه من نحبّ هو حيال هذا المشتهى بمثابة الذَنْب المنتصب أمام حالات العشق... والقلق.

فهذا الوجه هو بالتالي محل مثول وليس أبداً محل حضور وحكمة الحب كما يفردها هذا الكتاب تكمن بالعمق في ملء الحضور وليس أبداً في قيد المثول، وانطلاقاً من هذه القاعدة نرى هيدغر محل استحضار تارة بصورة واضحة وتارة بالمواربة بغية الخروج من هذا الإلتباس... إلتباس المثول المقيد لوجه الحبيب من جهة وحضوره الحر من جهة أخرى.

كيف للحب أن يكون حكمة حسب آلان فنكييلكرو؟
على الرغم من أن فنكييلكرو لا يستعمل المصطلح الهيدغري الشهير والذي يشير للدلالة على  الهدوء والسكينة والتخلي وبشكل خاص الرضا والتسليم، فإن هذا المصطلح (غلازنهايت)* لا يني يردف تصور فنكييلكرو للعلاقة حب/ حكمة بالكثير. فبصرف النظر عن اختلاف السياقات بين توظيف هيدغر للمصطلح وطريقة استدعائه غير المعلن في كتاب "حكمة الحب"، فإن لهذا المصطلح الدور الحاسم في تعزيز الحب كحكمة. فحكمة الحب حسب فنكييلكرو تستبطن فعل الإنفتاح والتهيؤ وهو فعل ينطوي بالعمق على تلقف كل ما هو غير محدد وغير متيقّن إزاء الذات. فـ (الغلازنهايت) هي سبيل عبور الآخر بصرف النظر عن عمق هذه الآخرية وغيريتها. 

فحكمة الحب هي هذا الإستيعاب المترامي للمغاير والتهيؤ لحضوره ولا سيما إذا كان لهذا الحضور أن يشد من عزم كينونة الإنسان في العالم. إن وجه الحبيب في هذا السياق هو محاكاة تستبطن المغايرة لكنها المغايرة التي تلبي شرط الأنا في العالم. 

إن شرط العالم العزلة يقول فنكييلكرو وحكمة الحب تكمن في الإسترسال الحر للتخلص من هذه العزلة عبر التمنع عن تدجين وجه الآخر، وجه الحبيب، وبالتالي التخلي عن الإستفحال في مناورات ضيافة هذا الوجه تارة ونبذه تارة أخرى والإنفتاح من ثم لكلية الحضور عبر حكمة لا تبغي من العالم شيئاً... عبر حب تردفه الحكمة بكل ضروب الرضا والتسليم، أي بكل ضروب حب القدر** إذا ما أردنا أن ننهي بالإرث الدوستويفسكي ثم النيتشوي فالهيدغري حيال مسألة الإستسلام الهادىء أمام غبش العالم وضبابه .
• Glassenheit
• Fata Amori