"أخونة" عبد الناصر و"إسلام" ميشال عفلق وقشرة العلمنة

محمد حجيري
السبت   2016/01/16
جمال عبد الناصر وميشال عفلق وصلاح البيطار عام 1958
يعود الصحافي سليمان الفرزلي في كتابه "حروب الناصرية والبعث"(*)، إلى تاريخ نشأة الصراع بين قطبي العروبة، حزب "البعث" والتيار الناصري، مفنداً آداءهما، وعلاقتهما بالحركات الإسلامية، لعله يجد في الماضي تفسيراً لما يجري راهناً، وخصوصا بعد عودة الإسلام السياسي إلى الواجهة، مستندا في إتمام هذا الكتاب إلى سلسلة مقالات نشرها محمد حسنين هيكل في صحيفة "الأهرام" طاولت حزب البعث ومؤسسه ميشال عفلق... ويناقش في جزء من كتابه الإشكالية، من خلال التناقض الحاد الذي نصحت به مقالات هيكل، بين دفاعه الموارب عن التوجه الناصري الى السلام، وبين تأكيده أن "من لا يريد محاربة إسرائيل فإنه يريد حربا أهلية بين العرب"...

ثمة الكثير من القضايا المتشعبة التي يتناولها الفرزلي، بعضها يكتب موقفه منها كأنه بصيغة البيان الحزبي الشعبوي، وبعضها الآخر يحتاج دراسات ميدانية وليس مجرد آراء، وهناك مواضيع عفا عليها الزمن وبعضها الآخر يرتبط بالحاضر، خصوصا تلك الحروب المستعرة والمستأنفة بأشكال جديدة وأكثر وحشية. لكن ليس بالضرورة ان تكون حروب الأمس هي حروب اليوم، وهناك الكثير من الأمور الثقافية والجغرافية والاجتماعية، كان يمكن التطرق إليها في الكتاب. لكن يبدو أن الهدف الأبرز بالنسبة إليه كان الرد على ترهات هيكل وخيالاته المترهلة، وكان يمكن للكتاب أن يكون تحت عنوان "صراعات ثقافية وسياسية بين بلاد الشام وبلا النيل"، فيفتح المجال على أمور أكثر دقة وحساسة، تظهر جوهر العروبة (او العروبات) المفخخة، وسعي البعث الى "بعثنة" الشعوب العربية في عقلية واحدة، وسعي الناصرية الى تمصير أو "مصرنة" العرب على نسق "امبريالي"... وفي بعض الجوانب ثمة تبسيط للأمور ومنها أن المسلمين في غالبيتهم، تعرضوا ويتعرضون لخديعة كبرى باسم الإسلام من قبل حكامهم، وقادتهم، وحركاتهم، وان هؤلاء جميعا خدعوهم وضللوهم عن قصد، او عن ضعف، باستخدام "الإسلام وسيلة للاستقواء". والأرجح انهم يستغلون ويستقوون بأي شيء، سواء الدين او العدو أو القمع، على أن الشعوب (العربية والإسلامية) أكثر اندفاعاً من حكامها نحو تبني الخطاب الديني. والاستقواء بالقومية والعروبة لا يقل ضراوة عن الاستقواء بالإسلام، هي لعبة السلطة التافهة والاستبدادية...

على أن القضية الأبرز، والتي ما زالت راهنة ويتطرق إليها كتاب الفرزلي، تتعلق بـ"العلمانية الملتبسة" في العالم العربي، خاصة بين الأحزاب القومية واليسارية. ففي مقدمة كتابه يقول: "هناك إشكالية العلمانية والدينية في تنظيرات الناصريين والبعثيين وممارساتهم على الأرض، حيث كانت للحركتين المتلاشيتين من جراء حروبهما الداخلية والخارجية، قشرة علمانية ظاهرة وجوهر ديني في الباطن". فالناصرية والبعث في المنظور النقدي، بحسب الفرزلي، "لا يختلفان إلا في الشكل عن بقية الحركات الإسلامية المعاصرة، الاخوانية والسلفية على السواء، او التي تدخل في اطار التقليد الابراهيمي"، وليس أدل على ذلك في "البداية الاخوانية لجمال عبد الناصر، والنهاية الإسلامية لميشال عفلق". ويعتبر الفرزلي ان التناقض اللاحق بين عبد الناصر وسيد قطب لا يثبت العكس، لأن النظام الناصري بقي يمارس الحكم على القواعد ذاتها التي رسمها سيد قطب في بداية انطلاق ثورة يوليو 1952، كذلك النهاية القسرية التي فرضها صدام حسين على عفلق بعد وفاته، ليست الدليل الوحيد على حشر حزب البعث ضمن "التقليد الابراهيمي"، كما سمّاه عادل ضاهر...

كان يمكن للفرزلي أن يكتب في العلاقة بين ثورة يوليو وسيد قطب بوقائع أكثر دلالة لتبيان الحقائق، فلا يمكن الحكم على عبد الناصر من بدايته الاخوانية، بغض النظر ان كان على خطأ أو صواب. فجوهر الناصرية كان اسبتدادياً، شعبوياً، وليس دينياً، وإن لعب على الوتر الديني او تذرع به في بعض المواقف. وهو مارس سياسة الاحتواء للدين، خصوصا في بداية علاقته بسيد قطب، وسرعان ما وصل الى الصدام، مع الاخوان والشيوعيين والمثقفين، ويمكن قراءة شخصيته بكثير من الدقة، سواء من حيث علاقته بالسلطة وطريقة حكمه الفاشلة، أو علاقة "الجماهير" به. فليس منطقياً اختصاره بالأخونة أو "اللباس الإسلامي". واختصاره بالأخونة يشبه توصيفه بالفرعون وتلك العبارات الصحافية الجاهزة.

على أن سيد قطب نفسه، الذي يعتبره الفرزلي سيد أفكار عبد الناصر، عاش مراحل متناقضة ومتعددة ومتقلّبة، من مرحلة قيل انه كان ماسونياً، وكان يقترب من الإلحاد اذا جاز التعبير، ومن دعاة حرية اللباس والعري والذهاب الى البحر، وعرف بنقده الأدبي وقربه من نجيب محفوظ، ثم سافر الى اميركا وعاد الى "ظلال القرآن" والتطرف الفكري والعداء للغرب. وما يقال عن سيد قطب، يقال عن الرئيس انور السادات في مسيرته المتقلبة، ويقال عن صدام حسين... في السنوات الأخيرة، بعد ترهل مشاريع العروبة، وصعود مشاريع الطوائف والانقسامات، صار بعض الأقلام، ومنها الأميركي فؤاد عجمي، يعتبر العروبة سنّية، واقلام أخرى تبحث عن تفاصيل مملّة منها أن والدة جمال عبد الناصر شيعية، بل بات الاهتمام الجذري بتفاصيل طائفية لم تكن في الحسبان.

قصة حزب البعث مع الدين والإسلام تحديداً تبدو أكثر التباساً، على اعتبار انه حزب علماني في الأساس، ومؤسسه (ميشال عفلق) من أصول مسيحية. وفي رأي الفرزلي ظهر البعث إسلامياً بامتياز منذ أن ألقى عفلق أطروحته الإسلامية في "ذكرى الرسول العربي"، وأهم ما ورد فيها الجملة التالية: "كان محمد كلّ العرب فليكن العرب اليوم كلهم محمداً". وبعد وفاة عفلق أعلن صدام حسين من خلال وثيقة ملتبسة إسلام عفلق، وأكدت رزان عفلق إسلام والدها نقلاً عن صدام حسين، قائلة إن رؤية والدها للإسلام "رؤية إنسانية حضارية ثورية، اقترنت فيها يقظة الشخصية العربية الحضارية وملامحها بالإسلام". وفي هذا المجال يكتب الصحافي عبد الرحمن الراشد: "الادعاء بأن ميشال عفلق مات مسلماً بالتأكيد مسألة شخصية، وفوق ذلك ربّانية"، ويضيف "ولا يمكن تصديق أن عفلق اكتشف الإسلام في آخر عمره وهو الذي كتب عن النبي محمد أكثر مما كتب حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين". بل إنّ صدام خطا خطوات أبعد من ذلك ليس أقلها إعلان انتمائه بالنسب الى الامام علي لكسب ود الشيعة بعد التمرد على نظامه، وأضاف كلمة "الله اكبر" على العلم العراقي البعثي، بمعنى آخر انه اعلن اسلام البعث على الأقل في الشكل...

والالتباس الأكبر ليس في سخافة عودة صدام حسين إلى النسب الديني، والشعارات الدينية، بل في النظرة العروبية إلى العلماني من أصل مسيحي. ففي حمأة الصراع البعثي الناصري عزف بالتورية والتبطن، على وتر مسيحية ميشال عفلق، وهو ما عرف عنه الرئيس الناصري للجمهورية اليمنية، عبدالله السلال، بقوله في خطاب له "ميشال... ما لنا ولهذا الاسم". ونُسب إلى القذافي زعيم الجماهيرية الليبية العظمى القول: "أميشال وقائد مسيرة البعث العربي؟"، وهو نفسه فضل ان يكون اسم جورج حبش، "خضر" حبش... وعلى هامش هذه العبارات، ميشال في الخاتمة الصدامية صار أحمد، أي دخل في الأسلمة، والأرجح أن "أسلمته" تفضح المجتمعات التي يغيب فيها الفرد والحرية الفردية والعلمنة، لمصلحة منطق الجماعة والطوائف والدين.

يروي "القيادي العروبي" جلال السيد، تعليقاً على تولي عفلق رئاسة حزب البعث: "اخترناه لرئاسة الحزب أصلاً لكونه مسيحياً، مع انه يوجد من هو أكفأ منه للرئاسة، لكننا قصدنا بذلك أن يكون عنواناً لعلمانية الحزب". اختاروه مسيحياً ليقود العروبة البعثية فوجد نفسه في قلب الإسلام. وهنا طرح الشاعر أنسي الحاج سؤالا ذات مرة: "هل تكون مجاراة الأكثريّة المسلمة في إسلامها هي الصورة الفضلى لممارسة المسيحيّة اليوم في العالم العربي؟ وإذا كانت هذه "التضحية" هي حقّاً واجب المسيحي العربي على أساس إمكان اعتبارها تجسيداً لدعوة المسيح إلى الانفتاح والمحبّة، فأين يصبح حقّ الإنسان في المحافظة على تميّزه، أي حريّته، وماذا يكون من أمر الأقليّات؟"..

إسلام عفلق، كما يستنتج بعض الباحثين، له معنى واحد فحسب، وهو أنه في الوسط العروبي القومي، ليس لغير المسلم الحق في تعاطي السياسة بالمعنى الكامل للكلمة، اي ان مسألة الذمّي ألغيت في الواقع وليس في القانون.  


(*) صدر عن منشورات نوفل، 2016.