الدولة "تعجز" بالتعليم الرسمي و"تغمر" الخاص بملايين الدولارات

وليد حسين
الخميس   2024/09/05
خاف السياسيون من خسارة الطلاب في مدارسهم الخاصة فقرروا توتير الأجواء بالتعليم الرسمي (المدن)

غسل مدير عام التربية ورئيس مصلحة التعليم الخاص عماد الأشقر يديه من ذنوب وزارته تجاه العائلات اللبنانية، التي تئنّ من غلاء الأقساط الفاحش في المدارس الخاصة. وتباكى، على محطات التلفزة، بأنه غير قادر على القيام بأي شيء حيال تلاعب المدارس الخاصة بالميزانيات المدرسية. واعترف علناً بأنّ ميزانيات المدارس كلّها مخالفة للقوانين، وبرّأ نفسه بحجّة أنّ القضاء معطّل ولا يُلاحق المدارس المخالفة.

تضارب المصالح
هو يعلم أنه لو كان في دولة تحترم القانون والمؤسسات لما كان في منصبه كمدير عام للتربية طالما أنه يحتل منصب رئيس مصلحة التعليم الخاص، التي يُفترض أنها خاضعة رقابياً للمديرية. لكن رئيس المصلحة الذي يراقب نفسه بنفسه، في تضارب مصالح صارخ جداً، تباكى على العائلات اللبنانية مُديناً تصرفات المدارس التي رفعت أقساطها بشكل جنوني بلا حسيب ورقيب. وبما أنه من الصعب عليه أن يحاسب نفسه كرئيس مصلحة بصفته الثانية كمدير عام، كان يفترض بوزير التربية عباس الحلبي مساءلته على التقصير بعدم اقتراح مرسوم لوقف تمادي المدارس الخاصة، طالما أنه يتذرّع بأن القانون الحالي 515 لا يعطيه صلاحيات للبطش بالمدارس المخالفة. فهل يجوز أن يشرّع مجلس الوزراء عشرات المراسيم، التي يقترحها وزير التربية، لتسوية أوضاع الجامعات الخاصة المخالفة، ولا يخط له المدير العام ولو مرسوم واحد من شأنه وضع المدارس الخاصة عند حدّها؟

أقساط فاحشة
مع استعداد اللبنانيين للعام الدراسي المقبل، بدأت تتكشف الحقائق بأن ثمة جوقة كبيرة مدعومة سياسياً وحكومياً، لضرب التعليم الرسمي وإعادة الروح للمدارس الخاصة التي تتباكى وتئنّ من نزوح الطلاب الكبير منها إلى التعليم الرسمي. فبحسب استقصاءات "المدن" في مختلف المناطق يتبيّن أن مئات الطلاب يعملون على طلب إفادات من المناطق التربوية، الذي يشكّل دليلًا قاطعًا على انتقالهم من المدارس الخاصة إلى التعليم الرسمي. ومرد الأمر إلى أنّ الأقساط، حتى في المدارس التي تسمى "دكاكين"، لا تقل عن ألفي دولار. وإذا كان النزوح من الخاص إلى الرسمي أمر عادي ومعتاد عند اللبنانيين في مرحلة التعليم الثانوي (لطالما كان التعليم الثانوي في التعليم الرسمي أفضل من القطاع الخاص)، إلا أنّ الملفت هو النزوح المتزايد في مرحلة التعليم المتوسّط وحتى الابتدائي هذا العام.

استنفرت المدارس الخاصة حيال هذه الخسارة الكبيرة. ولم يبق مسؤول واحد في الدولة لم يشكُ من قرار وزير التربية حول دفع أهالي الطلاب مساهمة مالية بقيمة نحو خمسين دولاراً لصندوق لجان الأهل في المدارس الرسمية، كي تتمكن من تأمين المستلزمات الأساسية.
هال جميع المسؤولين تدفيع اللبنانيين خمسين دولاراً فقط لا غير على المدرسة الرسمية، فيما لم يحرّك أي مسؤول ساكناً حيال تعسّف المدارس الخاصة فرض أقساط تجاوزت الخمسة آلاف دولار على الطالب. لكن الأمر مدبّر: إحداث بلبلة بالتعليم الرسمي وإخافة اللبنانيين منه.

التباكي على التعليم الرسمي
لسان حال العديد من مدراء المدارس هو: هل السياسيون الذين يتباكون على الخمسين دولاراً سألوا أهالي الطلاب إذا كانوا يفضلون دفعها في المدرسة الرسمية، على دفع ألفي دولار في مدارس الدكاكين؟ ويؤكدون أن الأهالي يتقاطرون إلى المدارس ويقولون نريد دفع أكثر بشرط تعليم أولادنا من دون إضرابات.

العديد من المدارس في مختلف المناطق، بحسب مصادرهم، استقبلت للمرة الأولى منذ سنوات أكثر من مئة طالب جديد. وينقلون عن زملائهم المدراء تأكيدهم أنهم يستقبلون أعداداً غير متوقعة من الطلاب الجدد هذا العام. والسبب الأقساط الفاحشة في القطاع الخاص.

ويشكّك المدراء بتباكي المسؤولين على مجانية التعليم وحرصهم على عدم تحميل الأهالي مبلغ خمسين دولاراً. جل ما في الأمر، أنّ المسؤولين يعلمون أن لا قدرة للمدارس الرسمية على فتح أبوابها من دون الحصول على هذه الرسوم، ويصبّون الزيت على النار عوض وضع حلول. فيستدرجون حينها الدول المانحة لدفع الرسوم، لكن بعد بلبلة تربك التعليم الرسمي، ليخاف الأهل من المدرسة الرسمية.

دعم المدارس بالمنح المدرسية
يستطيع الوزير الحلبي أن يغسل يديه على غرار مدير عام وزارته، ويتبرّأ من تجاوزات المدارس الخاصة، وربما إدانة الفاسدين في وزارته (انتشرت في الآونة الأخيرة مكائد بعضهم ضد بعضهم الآخر على وسائل التواصل). لكن في ما يتعلّق بمالية الدولة وحاجة المدارس الرسمية للتمويل لا يستطيع إنكار حقائق ثابتة: كل الجلبة الحالية هي على نحو 15 مليون دولار، في وقت تنفق الدولة 300 مليون دولار لدعم التعليم الخاص. فعلى سبيل المثال، تعاونية موظفي الدولة ستتكبد نحو مئة مليون دولار كمنح مدرسية، والتقديرات لباقي الصناديق الضامنة في القطاع العام، والأسلاك العسكرية، والقضاة، تقارب مئتي مليون. فلماذا تنفق الدولة هذا المبلغ على دعم التعليم الخاص، في حين "تقطع الحكومة يدها وتشحذ عليها" عندما يتعلّق الأمر بدفع رسم التسجيل في المدارس الرسمية، للحفاظ على مجانية التعليم؟

فهل علينا أن نصدّق أن الدولة غير قادرة على دفع نحو 15 مليون دولار لصناديق المدارس الرسمية، كي يندفع الحلبي نحو خيار أخير أمامه بفرض الرسوم على أهالي الطلاب لتغذية صناديق المدارس؟ إذا كانت الدولة عاجزة عن دفع هذا المبلغ، لقاء تعليم نحو 290 ألف طالب وطالبة، لماذا تدفع منح مدرسية بمبلغ يفوق 300 مليون دولار إذاً؟

ورغم ذلك، من استفتى اللبنانيين حول دفع مبلغ خمسين دولاراً لتعليم أولادهم بالقطاع الرسمي؟ ولماذا هذا التحريض للأهالي على هذا الأمر في الوقت الحالي؟ هل خاف السياسيون من خسارة الطلاب في مدارسهم الخاصة فقرروا توتير الأجواء التي وصلت حد تلويح الحلبي بالاستقالة؟