عام دراسي جديد في سوريا: يوم الفرح!

وليد بركسية
السبت   2024/09/14
تحية العلم في مدرسة سوريا هذا الأسبوع
في إحدى مدارس محافظة حماة السورية وسط البلاد، يتجمع التلامذة الصغار في الباحة تحت الشمس بملابسهم غير المريحة، كي يرددوا الشعارات البعثية، ويصيحوا بالهتافات التي لا تحيي فقط قادة البلاد السياسيين، بل "الرفيقات" اللواتي يشرفن على تدريسهن واللواتي "يتحملن" وجودهم بصبر، كل يوم، في مشهد لا يلخّص فقط معنى الدراسة في سوريا الأسد، بل أيضاً طبيعة العلاقة بين الطلاب ومدرسيهم منذ سن صغيرة.

وانتشر مقطع فيديو تداولته وسائل إعلام موالية، من حماة، ليوثق "الاصطفاف الصباحي" التقليدي كما هو معتاد في المدارس السورية، مع بداية العام الدراسي الجديد، حيث تم تقديم "الرفيقات" المدرّسات اللواتي توجب على الطلاب المساكين تقديم التحية العسكرية لهن مع "التصفيق الطلائعي" الضروري في هذه المناسبات. بينما انتشرت صور في مواقع التواصل تظهر مراسم مشابهة في مدارس مختلفة حول البلاد، لترداد الشعارات البعثية وتحية العلَم وغيرها من المظاهر العسكرية.



وحتى مع الانفتاح النسبي الذي حضر في مدارس سوريا بعد وصول الرئيس بشار الأسد للحكم خلفاً لوالده الرئيس الراحل حافظ الأسد، العام 2000، بما في ذلك إلغاء مادة "التربية العسكرية" التي حولت مدارس البلاد إلى ثكنات عسكرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، العام 2003، فإن المدارس السورية لم تتغير على الإطلاق، سوى في ألوان ملابس التلاميذ، لا أكثر. بينما بقيت العقلية الصارمة حاضرة، إلى درجة لا يمكن معها فهم مطالبات الموالين الراديكاليين للنظام، كل عام في أيلول/سبتمبر، بإعادة "التربية العسكرية" إلى المدارس من أجل "محاربة الميوعة"، حسب تعبيرهم.

وفي الواقع يعتبر فرض ترداد الشعار البعثي بهذه الطريقة القسرية، على أطفال لا تتجاوز أعمارهم السنوات الست، عملية غسيل أدمغة ممنهجة يقوم به نظام الأسد بحق الأطفال السوريين منذ نعومة أظفارهم. علماً أن حزب "البعث" أعلن قبل سنوات أنه يدرس إعادة مادة التربية العسكرية إلى المناهج الدراسية من أجل "تخفيف ميوعة الشباب" و"تربية الجيل الضائع على قيم حب الوطن".

والفيديو الذي انتشر بشكل واسع في الصفحات الموالية، جزء من مشاركات أوسع ضمن ما يطلق عليه النظام السوري تسمية "يوم الفرح" بالعودة للمدارس! وهي الحالة الوحيدة ربما التي يمكن فيها جمع كلمة الفرح مع المدارس السورية في جملة واحدة، لأن الإحساس بالفرح ضمن هذا السياق مستحيل فعلاً. فتلك المدارس تتحول، منذ إغلاق أبوابها الحديدية السوداء في تمام الساعة الثامنة صباحاً، إلى شيء يشابه أقبية المخابرات سيئة السمعة، عطفاً على أساليب العقاب التي يتبعها الأساتذة ضد التلاميذ، سواء عند تقصيرهم الدراسي أو عدم انضباطهم الأخلاقي الذي يوازي طرح أسئلة أو تعليقات بشأن التوجيهات الرسمية، وصولاً إلى مخالفة القوانين المدرسية المتعلقة باللباس الصارم، وليس انتهاء بالتعرض للقائد الخالد حافظ الأسد أو ابنه بشار من بعده، بطريقة أو بأخرى.

كيف يمكن الفرح بالتوجه إلى سجن ناعم وقضاء وقت في مبانٍ تم تصميمها بشكل ممنهج منذ ستينيات القرن الماضي، لتُماثل تصاميم السجون السورية تماماً، بنوافذها الضيقة المغلقة بقضبان حديدية، وأسوارها العالية التي توضع فوق بعضها شظايا الزجاج أو حواف معدنية لمنع التلاميذ من الهروب كي يقضوا ساعات طويلة في مساحات ضيقة لا يستطيعون فيها حتى الركض بحرية أو اللعب في الوقت القصير المخصص لذلك، بينما تراقبهم عينا القائد الخالد من الصور والتماثيل الخاصة به، في كل زاوية وجدار، مع قراءتهم للشعارات الأسدية المعلقة إلى جوارها؟



على أن تغليف ذلك البؤس كله باسم الفرح، ليس عبثياً. فالنظام السوري يطرح نفسه في الدعاية الرسمية على أنه دولة حضارية تقوم بكل واجباتها، ويعمم فكرة مفادها أن كل ما يراه السوريون من حولهم من بؤس يشتكون منه هو أمر طبيعي يحصل في أنحاء العالم، وأنه بالتالي مستهدف عطفاً على مواقفه السياسية المعادية لـ"الغرب". وفيما كان ذلك لينجح في سنوات الثمانينيات الظلامية عندما لم تكن هناك تلفزيونات ولا إنترنت ولا إمكانية للمقارنة، فإنه اليوم يثير السخرية لا أكثر، حتى لو كانت سخرية مريرة وعاجزة.

وبدلاً من أن تقوم السلطة الحاكمة بمراجعة نفسها بعد الثورة في البلاد والاحتجاجات الشعبية ثم الحرب الأهلية التي قتلت وشردت أكثر من نصف السكان، فإنها اعتبرت ما حصل مجرد "مؤامرة" ضدها بهدف تخريب "جنة الله على الأرض"، ومع مرور السنوات بعد هدوء جبهات الحرب تدريجياً، باتت السلطة تتشدد في إعادة ملامح العسكرة والسيطرة البعثية القديمة التي كانت حاضرة في عهد حافظ الأسد، معتبرة التساهل النسبي الذي قدمه بشار في العقد الأول من توليه السلطة، سبباً من أسباب "التمرد والجحود"، وحضر ذلك في المدارس بشكل خاص، مع التركيز على الأدلجة منذ سن صغيرة كطريقة لتلافي "تمرد لاحق".

يمكن رؤية ذلك بوضوح في خطاب ألقاه بشار شخصياً بمناسبة عيد المعلّم، أمام مجموعة من "المعلمين المخضرمين"، العام 2022، عندما اعترف بأن أدلجة السوريين في المدارس السورية فشلت، رغم محاولات حزب "البعث" الحاكم غسل أدمغة السوريين منذ طفولتهم عبر مؤسسات يُجبر الأفراد على الالتحاق بها منذ سن صغيرة (طلائع البعث، شبيبة الثورة، ..)، متحدثاً حينها عن ضرورة أدلجة السوريين منذ سن صغيرة من أجل "غرس الثوابت الوطنية" وحتى توجيه التلاميذ الذين تبلغ أعمارهم 6 سنوات إلى المهن المطلوبة في المستقبل، وهي في هذه المرحلة "التعليم المهني" و"المشاريع الصغيرة". وهو ما يمكن تلمّسه اليوم في توجيهات وزارة التربية لإدخال مواد جديدة إلى المنهج مثل "تربية النحل"، على حساب مواد كانت تعتبر أكثر أساسية في الماضي مثل المواد العلمية كالرياضيات، وليس على حساب مواد يعشقها النظام مثل "التربية القومية" أو "التربية الدينية".



وفيما كانت إجراءات النظام والقيود التي فرضها على الإنترنت والاتصالات في البلاد، وغيرها من التعميمات التي حدت من حرية التعبير بشكل كبير في بلد يعاني أصلاً من "خنق الحريات"، تقول بوضوح أن النظام يحن إلى الثمانينيات كفترة ذهبية كان قادراً فيها على التحكم بالمعلومات وتقديم الضخ الأيديولوجي من دون قلق من قدرة الأفراد على الوصول إلى المعلومات والآراء بحرية وسهولة، فإن ذلك يُترجم اليوم إلى كلمات حرفية قالها الأسد بشكل صريح: "الفرق أن التعليم قبل التسعينيات وبناء الوعي الوطني، وحماية المجتمع من التأثيرات الخارجية، كان سهلاً، لم تكن هناك فضائيات ولا انترنت، ولا ما شابه، كانت المجتمعات أقرب إلى العزلة عن بعضها البعض وهناك تواصل، لكنه كان محدوداً".

يحب النظام تلك العزلة التي فرضها على السوريين طوال عقود، وخلق بموجبها دولة منغلقة على نفسها، ليس فقط بالمعنى السياسي، بل بالمعنى الثقافي للكلمة، وكانت حاضرة أكثر ما يكون في المدارس السورية كمثال أوضح عن معنى الحياة في سوريا الأسد. إذ كانت التربية العسكرية طوال عقود، تحول سوريا إلى أكبر "حشد بشري عسكري في الوقت نفسه ظُهر كل يوم" عند خروج التلاميذ السوريين من مدارسهم بملابسهم العسكرية الموحدة، بعد تلقيهم ساعات من التعليم المؤدلج الممزوج بالتدريبات العسكرية في الاستراحات بين الحصص الدراسية اليومية، ضمن مبان تم تصميمها حرفياً لتماثل تصميم السجون في البلاد، من أجل خلق الخضوع لدى السوريين منذ سن صغيرة.

وفيما ينظر النظام السوري إلى الثورة الشعبية التي طالبت بالإصلاح السياسي العام 2011 كمؤامرة خارجية نفذتها حركات إرهابية، فإن خطابه الإعلامي والدبلوماسي منذ العام 2020 بات يتعامل مع الثورة السورية والحرب في البلاد على أنها مجرد حدث تاريخي انتهى ويجب عدم تكراره. ومن هنا كرست وزارة التربية مثلاً حضور دروس التاريخ مقابل الرياضيات، فيما تعمل حكومة النظام السوري بشكل دائم على إنشاء مناهج تحتوي مضامين ذات ارتباطات سياسية تخدم وجهة نظرها وتعززها منذ عقود، ليس فقط في مادة "التربية الوطنية/القومية" بل في مواد كالتاريخ والديانة وحتى ضمن المواد العلمية نفسها. وعملت وزارة التربية منذ العام 2021 على إنشاء منهج جديد يدور حول "أسباب الحرب على سوريا".



وليس من الغريب رؤية الطلاب اليوم يقدمون التحية العسكرية لأساتذتهم، طالما أن رئيس البلاد بات يصف المعلمين بأنهم "جنود" ضمن معركة النظام لتطويع شعبه الذي قال العام 2011 بوضوح أنه أنه يتوق للحرية والإصلاح السياسي والديموقراطية، بغض النظر عن النتيجة اللاحقة للثورة في البلاد. ويصبح المعلمون ضمن هذا السيستم المروع، أداة من أجل تدجين الأفراد، وجزءاً من أسلوب النظام في تقسيم السوريين ووضعهم في خانات تعادي بعضها البعض حتى لو كانوا يتشاركون البؤس اليومي نفسه في النهاية، بشكل يمكن ملاحظته في الفيديو عبر فكرة "تحمل الأساتذة للطلاب" بوصفهم همّاً يومياً.

وبالطبع، فإن النظام السوري يخالف بهذه الممارسات، اتفاقية حقوق الطفل التي وقع عليها العام 1989، والتي تنص على حق الطفل في التعلم من دون استغلال، واحترام حرية الطفل وحقه في الحياة والنمو. فتُظهر التصريحات بوضوح كيف تعمل السياسات الرسمية على استغلال الأطفال لأغراض سياسية. والهدف الرسمي بالطبع هو التدجين المبكر لأن مشكلة الثورة السورية وعدم الاستقرار في البلاد لم تحدث قبل 11 عاماً إلا بسبب "قلة الوعي" لدى السوريين، ما يستوجب على الدولة بالتالي أن "تلقن المواطنين طريقة التفكير الصحيح".

ويمكن الاستدلال على القيم التي ينشرها النظام في المدارس بالنظر إلى تصريحات ياسر الشوفي، عضو القيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي ورئيس مكتب التربية والطلائع المركزي، العام 2021 عندما قال: "راية الطلائع ستبقى راية الطفولة في سوريا" و"راية الوطن ستبقى بأمان من خلال انتماء وهوية أطفال طلائع البعث"، مشيراً إلى قول بشار الأسد: "لا بعث بدون سوريا ولا سوريا بدون بعث". علماً أن الشوفي كان حاضراً في احتفالات لحزب البعث منذ آب/أغسطس الجاري، حيث أقامت المنظمات البعثية الخاصة بالفئات العمرية اليافعة فعاليات في مدن متعددة تحت شعار "طلائعنا عطاء وانتماء".