لا سياسة ولا إيديولوجيا...الـ"نيردز" يحكمون العالم!

يارا نحلة
الأربعاء   2024/09/11
يُلام النيردز على "تدميرهم السينما" بأفلام من قبيل ما تنتجه شركة "مارفل"
في أحد المؤتمرات الصحافية، وقف مالك منصة "اكس" وشركة "سبايس اكس"، إيلون ماسك، ليتحدث عن رؤيته لإنقاذ البشرية من خلال استعمار المريخ، مؤكداً أن التكنولوجيا هي الحل لمشاكل الأرض، من التغير المناخي إلى استنزاف الموارد. 
من جانبه، حلم مارك زوكربيرغ بربط العالم كله عبر فايسبوك، متصوراً شبكة عالمية تعزز التواصل بين البشر وتزيل الحدود. 

مثل هؤلاء الأذكياء الذين انتقلوا من الهامش إلى مركز القوة خلال العقدين الأخيرين، لا يرون أنفسهم مجرد رجال أعمال، بل مُصلحين عالميين. ومع ذلك، رؤيتهم هذه غالباً ما تأتي محملة بتوجه لا مبالٍ تجاه السياسة التقليدية، حيث يُنظر إلى الحلول التكنولوجية كبديل عقلاني وعلمي للصراعات السياسية التي يرونها غير فعّالة وغير ضرورية. بالنسبة إليهم، لا يحتاج العالم إلى خطاب سياسي معقّد، بل إلى شيفرة برمجية صحيحة يمكنها تخطي المشاكل البشرية.

"النيردز": من الهامش إلى قادة العصر الرقمي
هذا النهج التكنولوجي الذي يعتمده أشخاص مثل ماسك وزوكربيرغ، يعكس إلى حد كبير الخلفية الثقافية التي نشأوا فيها، وهي ثقافة الـ"نيرد". يُطلَق مصطلح "نيرد" على الأفراد الذين يتميزون بالذكاء الأكاديمي والشغف بالتكنولوجيا والعلوم، لكنهم غالباً ما يفتقرون إلى المهارات الاجتماعية أو الاهتمام بالسياسات التقليدية. 

تاريخياً، كانت هذه الفئة تميل إلى الانغماس في مجالات بعيدة من الحياة العامة، مثل الخيال العلمي، وألعاب الفيديو، أو البرمجة، لكن مع مرور الوقت، تمكنت هذه الثقافة من التحول من فضاءات معزولة إلى جزء مؤثر في الاقتصاد والتكنولوجيا على مستوى عالمي.

وعليه تحوّلت صورة الـ"النيردز" من شخصيات تُعتبر غريبة الأطوار، إلى قادة في الاقتصاد الرقمي. نسمع منذ ذلك الحين شعار "النيردز يحكمون العالم"، وذلك بعد عقود من التهميش والتنمّر انتهت مؤخراً بظاهرة "انتقام النيردز". 

انتقام 
يتخذ هذا الانتقام أشكالاً مختلفة في مجالاتٍ عديدة، منها الثقافة، حيث يُلام النيردز على "تدميرهم السينما" بسبب انتشار أفلام "مارفل" التجارية (الأبطال الخارقين). تشبه "سينما مارفل" إلى حدّ كبير الوجبات السريعة في تقديمها ترفيهاً سريعاً وجاذباً للجماهير. فهي تقدم جرعة سريعة من الترفيه المشوق وسهل الإستهلاك، عبر تكرار الصيغ الناجحة نفسها المليئة بالتأثيرات البصرية المذهلة والحبكات الجاهزة، لكنها تفتقر إلى العمق الفني والسردي، والأهم من ذلك البُعد السياسي.


لكن هيمنة "النيردز" على السينما، وصولاً إلى تسطيحها، قد تبدو هامشيةً أمام أثرهم في ميادين أخرى مرتبطة بحياتنا اليومية. فالانترنت الذي بدأت كمجالٍ ديموقراطي يساوي بين الأفراد ويفتح الباب أمام الجميع للنشر والتعبير، تحوّل إلى عالم طبقي يميّز بين المؤثر والمتفرّج، مع تحويل العمليتين إلى مبادلة تجارية يتمّ التعبير فيها عن الإعجاب بالمال (تيك توك نموذجاً). وقد أضحى لعملية التعبير تلك، حرّاس ومعايير اجتماعية تملي على المستخدمين ما يمكن قوله ومشاركته، وما تتمّ المعاقبة عليه بالحظر والإخفاء.

"اليوتوبيا" التكنولوجية: الوهم والاستبداد
العالم الذي يحاول الأذكياء بناؤه بالشيفرات والخوارزميات، أو ما يطلق عليه "اليوتوبيا التكنولوجية"، لا يقلّ استبداداً عن واقعنا الحاليّ الذي تديره عقول متواضعة (عقول السياسيين). أما المشكلة في هذا النظام العالمي المستحدث، فهو ابتعاده عن السياسة، أو هكذا يظنّ، بل حتى اتخاذه موقفاً "ضدّ سياسي"، على اعتبار أن العمليات السياسية تفتقر الى الطريقة العلمية، وأن حلول المشكلات الاجتماعية تكون عبر معادلات رياضية لا نقاشات ومطالب شعبية تنتج عنها سياسات الحكومة. 

تضليل وذكورية
باختصار، لا مكان لرغبات المواطنين والناخبين في تلك "اليوتوبيا" التكنولوجية البريئة من الصراعات السياسية، التي هي في جوهرها عملية تفاوض حول المصالح والحقوق والواجبات.
في تلك "اليوتوبيا" التكنولوجية، تُسلب منا خصوصيتنا تحت عين الرقابة المستمرة، كما يحرمنا الذكاء الاصطناعي من وظائفنا، إن غابت إرادة سياسية حقيقية لردعه. منصات مثل فايسبوك و"اكس" (تويتر سابقاً) تحولت إلى ساحات لنشر المعلومات المضللة وتأجيج الانقسامات السياسية. 

أما الذكورية فباتت أكثر تفشياً، إذ تشتهر دوائر "النيردز" بميزوجينيتها نتيجة فشلهم في جذب النساء، فيقدمون على تطوير تطبيقات خطيرة على النساء، مثل تطبيقٍ يسمح للرجال بتحديد أماكن تواجدهن من دون موافقتهن. في هذه اليوتوبيا أيضاً، تعبث الشركات بحياة المدن، كما في سان فرانسيسكو، حيث تسبب باص "غوغل" الذي يقلّ الموظفين في رفع أسعار العقارات، ما أثار احتجاجات السكان الذين باتوا غير قادرين على تحمل تكاليف السكن.

إقتصاد بدون سياسة؟
قبل مدّة، قدم إيلون ماسك "حلاً جذرياً" لمشكلة نقص المياه. برأيه، المشكلة لا تكمن في خلل توزيع الثروات أو توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، بل هي ببساطة مسألة تقنية تتطلب حلاً تكنولوجياً بحتاً، يتمثل في استبدال مصادر الطاقة وتحسين البنية التحتية للنقل. 
لكن كعادته، أغفل رجل الأعمال المخضرم عقبة جوهرية أمام هذا الحل المبسط: التمويل اللازم للاستثمار الرأسمالي. وهذه العقبة ليست تقنية، بل سياسية بامتياز، متعلقة بتوزيع الحقوق والواجبات بين الدولة، الشركات، والمواطنين في إطار النظام السياسي.

المفارقة هنا هي استعارة مصطلح سياسي (يوتوبيا) لوصف هذا العالم اللا-سياسي. وهنا تتجلى سذاجة هؤلاء "الأذكياء" الذين يعتقدون أن العِلم وحده قادر على معالجة مشاكل مثل الاحتباس الحراري والفقر والتمييز الجنسي، متجاهلين تماماً تعقيدات الأيديولوجيا، وحقوق العمال، والسياسات الاقتصادية. 

والحال إن قصورهم في فهم السياسة يجعلهم يظنون أن موقفهم منزّه عن الأيديولوجيا، في حين أن توجههم المبنيّ على مصالح الشركات الكبرى هو في حد ذاته أيديولوجيا متكاملة، وإن كانوا لا يعترفون بها.

الأذكياء يريدون بناء يوتوبيا، لكنهم لا يهتمون حقاً ببناء عالمٍ أفضل. أيكون هذا انتقامهم من مجتمعٍ يحتفي بقيَم الوسامة والكاريزما والذكاء العاطفي، مقابل إهماله للذكاء العلمي الخامّ؟ أم أنّ سيكوباتيتهم تلك ليست في الواقع انتقاماً بقدر ما هي محاولة للتماهي وايجاد موقعٍ لهم في عالمٍ لطالما نبذَهم؟

لعلّهم لم يرغبوا يوماً بتغيير العالم، بل فقط في نيل استحسان مَن سخروا منهم أيام المراهقة. فهل يحكم الأذكياء العالم حقاً أم أنّهم فقدوه مرّةً أخرى لصالح أصحاب المال والجمال؟