"أي لبنان بيشبهكن أكتر؟"... نحو مزيد من التقسيم

نور صفي الدين
الجمعة   2024/06/28
منزل مدمر في كفرا بجنوب لبنان (غيتي)
لم يعد اليوم من المُلِحّ، التناكف حول مَن بدأ الحرب في لبنان، على اعتبار أن النقاش حول ما إذا كانت "المبادرة إلى افتعال الحرب" صائبة أو مخطئة، تجاوز السجالات السياسية، وبات لبنان بأكمله اليوم مهدداً بتوسّع الحرب التي لم تستقر، منذ بداياتها، عند قواعد الاشتباك الجغرافي، وباتت لا تفرّق بين لبناني وآخر.. 

ومع تنامي الهجمات على الجنوب اللبناني، والتهديد بشن حرب تدميرية ستُرجع لبنان الى "العصر الحجري"، برز نقاش استطرادي، يدور حول ما إذا كان التضامن الداخلي هو الحاجة الأكثر إلحاحاً أمام عدوان خارجي لم يتوقف يوماً عن انتهاك سيادة البلاد، أو أن من افتتح المعركة، فليتحمل عواقبها بكل أبعادهعا السياسية والنفسية والجغرافية والديموغرافية، مما عزز الانقسام اللبناني الداخلي، والتشظي بين مقاربات وأدبيات سياسية، جعلت خطاب الـ"هم" و"نحن" يستوي في أقصى مراحله. 

و"هم"، مرادفة للجنوبيين الذين يقاتلون العدو الاسرائيلي ويفعلون ذلك من خلال انخراطهم في إطار مقاومة حزبية لم يجدوا سواها طريقاً للنضال.. أما الـ"نحن"، فتعبر عن محبي السهر والحياة و"لبنان سويسرا الشرق".. والـ"نحن" بهذه الحال، تؤشر الى فئة تتمسك بالحياد، ومستعدة لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي فقط في حال تقدم نحو العاصمة بيروت.

وإن بدت هذه المقاربة صالحة لطرح سياسي شعاراتي، الا أنها، وفي مقارنة مع جغرافية الوطن الذي يمتد على مساحة 10452 كلم (منها حوالي ألفي كيلومتر مربع مساحة الجنوب اللبناني)، لا تبدو متناسبة مع الواقع ببُعديه الجغرافي والوطني. ويصبح من الملحّ الآن التذكير بشعار الرئيس الراحل بشير الجميل ردًا على المطالبين بالفيدرالية آنذاك، وهم موجودون اليوم وإن تلطوا بوشاح الوطنية. 

غير أن الخطاب السياسي الشعبوي الحاضر في وسائل التواصل الاجتماعي، والمنشور عبر الماكينات الإعلامية الحزبية، يعكس مدى تحول الساحة اللبنانية الى ساحة اتهام، ونبذ، وتقسيم.

فعلى شاكلة الفيديو الذي انتشر في آذار الماضي، عندما خُيّر العرب آنذاك بين غزة من جهة، والامارات والسعودية من جهة أخرى، والقول إن العرب يعيشون بين "شرقين أوسطيين مختلفَين"، نشر موقع "الكتائب اللبنانية" فيديو "هيدا لبنان" الذي يحمل مقطعين، الأول وفيه صور للقصف الاسرائيلي وبكاء عائلات ضحايا العدو الاسرائيلي ومشاهد لتدريبات عسكرية، والثاني لصور الأسواق والموسيقى وليالي السهر، طارحاً في نهاية الفيديو سؤال "أي لبنان بيشبهكن أكتر؟" 


لهذا الفيديو دلالات كثيرة وإذا كانت لا تختلف عن تصريحات نواب حزب "الكتائب" بنسبة كبيرة، لكن وضعها بهذا الشكل الصارخ لفكرة التقابل النافر بين "شعبين" لبنانيين، تستدعي التعمق في فهم هذه المقاربة وغاياتها. الشعب الأول الذي قرر الموت والدمار والتهجير (وكأنّه لا يعيش تهديداً يومياً)، والثاني الذي قرر أن يعيش سالماً هانئاً وكأن شيئاً لم يكن. فالوطن من حيث التسمية بحسب الفيديو واحد، لكن الشعب ليس كذلك بحسب العبارتين: "هيدا لبنان" (المدمر)، و"هيدا كمان لبنان!" (النابض بالحياة).

قد يكون قد غاب عن بال المسؤولين عن هذه الصفحة أن الكتائبيين حملوا شعار المقاومة لدحر "المحتل" السوري والفلسطيني عن لبنان منذ السبعينيات. قاتل الكتائبيون حتى الموت من أجل تحرير بيروت الشرقية وزحلة وغيرها إبان دخول الجيش السوري، وفي تلك المرحلة لم يكن شعار "نحن نحب الحياة" رائجاً أو حتى موجوداً، فالدفاع عن الوطن أولويّة حتميّة. لكن اليوم، وعلى الرغم من التهديد الاسرائيلي المتصاعد، الذي لا يهدد الجنوب فحسب وإنما لبنان بأكمله، يتصاعد الخطاب التقسيمي لتعلو صيحاته كلما بدت احتمالية الحرب أمراً لا مفر منه. فما هي تبعات هذا الخطاب على الداخل اللبناني؟

تكمن المشكلتان الرئيسيتان، أولاً في عزل "حزب الله" عن المشهد اللبناني وربطه بالأجندة الخارجية فقط من جهة الاشارة إليه على أنّه تنظيم خارج عن حاجات اللبنانيين. فعلى الرغم من أنّ تأييد "خيار المقاومة بالسلاح" أقرته الحكومة في بيانها الوزاري، واعتمد ضمن خطابات قسم الرؤساء المتعاقبين، وعلى الرغم من أنه في الظرف الحالي يحظى بتأييد واسع من أبناء الجنوب، الذين يعيشون على تماس دائم مع الحرب، إلا أنّ ظرفية الحدث لم تمنع الآخرين من التوقف عن انتهاج مبدأ "التغريب" الكلي بحق سكان هذه المنطقة. 

والمشكلة الثانية، تتمثل في مساواة أبناء الجنوب كافة "بحزب الله" على اعتبار أن الجنوب هو بمثابة مجتمع عسكري مؤدلج بكافة أطيافه. هذه الفيديوهات والمعنى المجتزأ الذي تحمله، قادرة على إطاحة الشعور الوطني المشترك من خلال نبذ فئة من اللبنانيين وشيطنتها على حساب فئة أخرى. 

لا تخدم هذه الفيديوهات الاجتماع اللبناني الذي يراه البعض "مصلحة وطنية"، على العكس من ذلك، تدفع الجنوبي للشعور بأنّه معزول، فلا أحد يكترث لشأنه، وتفرز المواطنين اللبنانيين على اساس فئة تعيش بمنأى عما يحصل على ذلك "الكوكب" الآخر، وبأن وقوع فئة في خضم الحرب، ليست مسؤوليته، وتوحي للمتابع الأجنبي بأنّ كل الدمار الحاصل في لبنان اليوم هو نتيجة قرار داخلي خاطئ لم يدفع الفرقاء أنفسهم للتعاطف.

لكن الحقيقة أنّ هذه الفيديوهات هي تعمية عن الواقع حيث لا يمكن للبناني أن يفصل نفسه عما يدور في الجنوب، حتى وإن كان يستجم في الجبل.. وليس بعيداً أن يكون بعض أبناء الجنوب نفسه قد أمضوا سهراتهم في أحد الملاهي الليلية (بحسب المقطع الثاني) ويقودون سيارتهم نحو الجنوب "المدمر" حيث يعيشون (بحسب المقطع الأول)! ففي هذه الحالة  هل يغدو "أي لبنان بيشبهكن أكتر" سؤالاً معقولاً؟