في الشكل، رحّبت جمعيّة المصارف بتوقيع الاتفاق على المستوى الموظفين، الذي جرى بين الوفد اللبناني المفاوض وبعثة صندوق النقد. بل وأكّد بيان الجمعيّة يوم أمس الجمعة على ضرورة "الإسراع في إقرار التشريعات والإصلاحات اللازمة لتفعيل تطبيق برنامج كامل" مع الصندوق، ما يوحي بأن الجمعيّة حريصة على نجاح هذا المسار واستكمال الاتفاق المبدئي. لكنّ الجمعيّة حرصت على الإشارة بشكل مبطّن إلى هواجسها المرتبطة بهذا المسار، حين ذكر البيان أن الجمعية لم تتطلع "على تفاصيل الخطة الماليّة لإعادة الهيكلة وتوزيع الخسائر"، فيما تتوقّع الجمعيّة "أن تشمل الخطّة توزيعًا عادلًا للخسائر على الحكومة ومصرف لبنان". باختصار، تركت الجمعيّة لغم السؤال حول "توزيع الخسائر" كامنًا خلف ترحيبها المبدئي بالاتفاق الحاصل مع صندوق النقد، ما يربط تعاونها في هذا الملف بتفاصيل الخطّة الماليّة التي عمل عليها الوفد الحكومي.
جمعيّة المصارف تمارس "التقيّة" مع الصندوق
في واقع الأمر، تشير المصادر المصرفيّة المتابعة لملف المباحثات مع صندوق النقد إلى أنّ موقف جمعيّة المصارف الفعلي صار اليوم أبعد وأشرس من مجرّد التوجّس من عدم الاطلاع على تفاصيل الخطّة، إذ باتت الجمعيّة ترى اليوم في مسار التفاهم مع الصندوق خطرًا داهمًا على مصالحها ورساميلها ونفوذها، خصوصًا بعد أن اطلعت على طبيعة الشروط التي طلبها الصندوق قبل المضي قدمًا بالاتفاق النهائي مع لبنان. وبخلاف "الترحيب" المبدئي بالاتفاق الذي عبرت عنه الجمعيّة في البيان الرسمي، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات للدلالة على أن الجمعيّة شرعت منذ أيام بتحضير أسلحتها للحرب، في وجه أي محاولة لتطبيق الشروط التي طلبها صندوق النقد. بل وأبعد من ذلك: باتت المصارف جاهزة لشن الحرب على التفاهم المبدئي نفسه، تمامًا كما شنّت الحرب بأساليب غير مباشرة على خطّة حكومة دياب سنة 2020.
بمعنى آخر، لم تكن كل العبارات الإيجابيّة التي أطلقتها جمعيّة المصارف تجاه مسار التفاهم مع الصندوق سوى مجاملات كاذبة من باب "التقيّة"، لعلمها أن الظروف لا تسمح لأحد بإطلاق النار على الصندوق وشروطه الإصلاحيّة، في حين أن موقف الجمعيّة الفعلي شديد السلبيّة تجاه الشروط التي طلبها الصندوق. ولهذا السبب بالتحديد، تركت الجمعيّة لغم السؤال عن تفاصيل "خطّة توزيع الخسائر" في البيان، التي لم تتطلع الجمعيّة على تفاصيلها، لترك الباب مفتوحًا لكل السجال الذي سيجري في المرحلة المقبلة فيما يخص مندرجات التفاهم مع الصندوق.
هذا ما يخيف المصارف
ثمّة الكثير مما يخيف جمعيّة المصارف من التفاهم الذي جرى على مستوى الموظفين، إلا أن أبرز هواجسها تتلخّص في النقاط التالية:
- تدرك المصارف أن صندوق النقد رفض جميع المقاربات السابقة لخطّة توزيع الخسائر، التي لم تتضمّن شطباً كاملاً للرساميل المصرفيّة القائمة، قبل الشروع بتوزيع الخسائر على المودعين والدولة ومصرف لبنان. وتدرك المصارف أيضًا أن الوفد الحكومي اللبناني احتاج لمعالجة هذه النقطة بالتحديد في آخر صيغ الخطّة، والامتثال لطلب الصندوق، للتمكّن من المضي قدمًا في توقيع التفاهم الأخير. مع الإشارة إلى أن جمعيّة المصارف رفضت أساسًا الصيغ السابقة التي تضمّنت اقتصاصات وازنة من الرساميل المصرفيّة (من دون شطب الرساميل بالكامل)، فما بالك بالخطّة الجديدة التي ستنطوي على شطب كامل وكلّي للرساميل كما طلب الصندوق. باختصار، كانت المصارف تدفع سابقًا باتجاه تقليص الخسائر التي ستتحمّلها من رساميلها، فإذا بالوفد الحكومي يذهب بالاتجاه المعاكس تمامًا: عبر الخضوع لشروط الصندوق، وتحميل الرساميل المصرفيّة أقصى ما يمكن أن تتحمّله من خسائر، وصولًا إلى شطب الرساميل بالكامل.
- يطلب الصندوق، كشرط حاسم قبل توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان، الشروع بعمليّة إعادة تقييم شاملة لكبرى مصارف القطاع، ومن خلال مؤسسات أجنبيّة مختصّة تقنيًّا. خطوة من هذا النوع، ستعني كشف حجم الخسائر الموجودة في كل مصرف على حدة، قبل الشروع بإعادة هيكلته، وهو ما يتناقض مع توجهات الجمعيّة التي حرصت على إخضاع مسار إعادة الهيكلة لتفاهماتها مع مصرف لبنان وتعاميم الحاكم.
- يطلب صندوق النقد إخضاع مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي لقانون خاص من المجلس النيابي، مع تبنّي الحكومة لاستراتيجيّة خاصّة لإعادة هيكلة القطاع، بما يشمل الاعتراف الصريح بالخسائر دفعة واحدة. وهذا المسار، يتعارض بشكل جذري مع رؤية الجمعيّة التي تصر على إخضاع مسار إعادة الهيكلة لمبدأ "الدمج والاستحواذ الطوعي"، أي من خلال وضع معايير الملاءة والسيولة من قبل مصرف لبنان، وترك المصارف لتحدد مصيرها بنفسها عبر الدمج والاستحواذ.
- تدرك المصارف أن المس بمبدأ السريّة المصرفيّة، كما يطلب صندوق النقد، سيعني فتح الباب أمام نبش الملفّات وكشف ارتكابات سابقة جرت خلال الأعوام الماضية، بما فيها تلك التي ترتبط بالنافذين داخل القطاع (كتلك المرتبطة بالمستفيدين من عمليات الهندسة الماليّة). مع العلم أن صندوق النقد حرص على الإشارة إلى أن هدف تعديل قانون السريّة المصرفيّة يفترض أن يكون الممهد لكشف الجرائم الماليّة التي حصلت، واستعادة الأصول المتأتية من كسب غير مشروع.
- تعلم المصارف أن توحيد أسعار الصرف بشكل شامل، وقبل توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق، سيعني تقييم إلتزاماتها للمودعين بالعملة الصعبة بقيمتها الحقيقيّة في الميزانيّات، بدل تقييمها بسعر الصرف الرسمي، كما سيعني ذلك انكشاف كتلة الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي (في المصارف ومصرف لبنان معًا) بشكل مباشر، وقبل الدخول في مسار المعالجات.
باختصار، لا تملك المصارف أي مصلحة في كل ما تم وضعه من شروط في الاتفاق الذي جرى بين الوفد اللبناني المفاوض وبعثة صندوق النقد، بل وتدرك المصارف أنها على مشارف مرحلة حسّاسة تدفعها إلى خوض معركة كبيرة، دفاعًا عن مصالح أصحابها والنافذين فيها. أي سيكون اللبنانيون مجددًا أمام المشهد الذي بات مألوفًا: حين تخوض اللوبيات المصرفيّة في مجلسي الوزراء والنوّاب معركة المصارف، لتحييدها عن تبعات الانهيار الحاصل، ورمي كلفة التصحيح على ما تبقى من مقدرات المجتمع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها