الأحد 2024/11/10

آخر تحديث: 00:10 (بيروت)

أشياء أخرى تأتينا من إيران

الأحد 2024/11/10
أشياء أخرى تأتينا من إيران
increase حجم الخط decrease
من زاوية نظر مغايرة لطغمة الحرب السائدة، يتراءى جِسرٌ طائر لا تذكُره نشرات الأخبار، ويصعب قصفه. لا يراه ولا يتحسس حمولته إلا مَن رفَد حباله الأثيرية بضِلعٍ أو قضبان زنزانة، بحبيبٍ غطّ في نوم أبدي، أو بجوع يعتصر أحشاء أطفاله. هو جِسر أجساد يهيمن عليها نظام، إن استُفزّ، حكَم عليها بالموت حيناً، وبالتشرد أحياناً، أو بالسجن العابق بصيحات التعذيب، وربما يسوقها إلى مصحّ الأمراض العقلية الذي قيل إن آهو دريائي انتهت إليه قبل أن تنقطع أخبارها.

هذا هو اسمها الذي عرفناه بعد قصتها، وسنحفظه جيداً: آهو دريائي. الشابة الإيرانية التي تعرّت إلا من ملابسها الداخلية، بعدما تعرضت لمضايقة ظِلال الآلهة على الأرض، بشأن حجاب لم تضعه مُحكَماً. قررت خلع أكثر مما أُمِرت أن ترتدي، لتتمشى في حرم جامعة آزاد، وتُلتقط لها صُور ملأت الفضاء الاجتماعي. تحوّلت أيقونة ملصقات ولوحات "بوب آرت"، احتفى بها العالم وشارَكها وزاد عليها. في تلك اللوحات، تظهر آهو كاسرةً بجسمها الغضّ جداراً ملوّناً بالعلَم الإيراني، ماردة شامخة فوق "شُرطيّات الأخلاق" المغلّفات بالتشادور، أو بكل بساطة محتفظة ومزدانة بألوان بشرتها وشَعرها وملابسها الداخلية فيما كل ما حولها مُظلَّل بالسواد.

وفي لبنان، اكتست الحماسة لملصقات آهو، ببُعدٍ إضافي، إذ تأتي من إيران أخرى غير تلك التي يزور مسؤولوها بيروت للكلام عن استمرار القتال. القتال الذي تتوحش فيه إسرائيل، فتُبيد بشَراً وتمحو قرىً وتهلك عائلات بأكملها. احتضن لبنانيون جسد آهو، وغالباً ما صدّروه في صفحاتهم الاجتماعية بديلاً أو نصيراً لأجسادهم الممزقة فعلياً ورمزياً.

في لبنان أجساد تفنى، تعلق تحت الركام، أو تنزح إلى أرصفة قذرة ومراكز إيواء بلا تدفئة. وفي إيران، أجساد لا تملك ما تحتج به إلا تفاصيلها الخطيرة على الأمن القومي. باب السياسة، والصحافة والفن والتجمع والاعتراض، موصد. لم يبق سوى اللحم الحي، حرفياً. حاولت تلك الأجساد حشد التظاهرات في الشوارع، فتفاقمت ملاحقتها بالسلاح والمحاكمات والاعتقالات وعصي الشرطة. كانت ترقص في فيديوهات، أو فقط تتفوه بخلاف المكرس. كُتم بعضها، وما زال البعض الآخر ينطق بحلاوة الروح. شيء شبيه اختبرته شوارع بيروت، شمالها وجنوبها، في 2019.

وفي لبنان، أجساد تحمل وزر حرب تقودها وتفاوض بأجسادها النازفة، السلطةُ نفسها التي ألبست آهو قميص العقل المنقوص، وأخفتها. الحرب التي تتغوّل فيها إسرائيل بلا رادع، ولا يسع مئات آلاف اللبنانيين إلا تلقفها واحتمالها، أو العجز عن احتمالها، بأجسادهم المحضة... وبشكلٍ ما، خاطبتهم آهو أكثر من إيرانيات كثيرات يتحدّين السلطة منذ سنوات. الجسد السياسي، في هذه اللحظة، يفيض بمعانيه ويضاعفها.

من مهسا أميني إلى آهو دريائي، قبلهما وبعدهما، أجساد وأجساد تقاوم بجِلدها وجَلدها، تحتجّ بشَعرها إذ تسلّمه للضوء والهواء.
آيناز كريمي، طالبة انتحرت بعدما عنّفتها مديرة مدرستها بسبب طلاء أظافرها. أخرجها شقيقها من المدرسة، وفي ظل الضغوط، قررت إنهاء حياتها.
الفائزة بجائزة نوبل للسلام، نرجس محمدي، تصارع الموت في سجن "إيفين"، حيث نفذت لفترات متتالية إضراباً احتجاجياً عن الطعام. جوّعت جسدها وأنهكته طوعاً، لتحكي به، بعدما حُرمت من صوتها. ومثلها المحامية والمدافعة عن حقوق الإنسان، نسرين ستوده، المعتقلة منذ حضورها جنازة الشابة أرميتا غراواند (فتاة المترو) التي لاقت مصير مهسا أميني، ودائماً بسبب لِباس لا يغلّف الجسد-الذات بالقدر الكافي، ودائماً بعنف الشرطة.
ولا نعرف الكثير عن الصحافيتين نيلوفر حامدي وإلهه محمدي، اللتين غطّتا المُلابسات والتظاهرات إثر مقتل مهسا على يد الشرطة. نيلوفر وإلهه مُعتقلتان، حُكم عليهما بالسجن خمس سنوات، وتصرّ السلطات على التنفيذ رغم المناشدات المحلية والدولية. هذان الجسدان المحبوسان بتهمة الصحافة دون سواها، بجُرم كتابة قصة جسدٍ عُنّف حتى الموت، لا أحد يعرف ما يتعرضان له بين تلك الجدران التي قلما تكون فقط للاحتجاز. جسدان لضحيتين أخريين من بين عشرات أو مئات لا نعرف لها أسماء.

هكذا يُكسر الجسد إن ساءَل أو تحدّى السردية المُسقطة من أعلى. جسد مُجرِم، جسد مجنون، جسد مُرحَّل، جسد ميت. أما الجسر الطائر، فكلما انزلق عن جنباته رداء الإخفاء، سيلمع قليلاً في نور الشمس.

  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها