الثلاثاء 2024/10/08

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

الضاحية الجنوبية: الفراغ والهلاك وأسنان الموت

الثلاثاء 2024/10/08
الضاحية الجنوبية: الفراغ والهلاك وأسنان الموت
غارات ودمار وجرحى في المريجة بالضاحية الجنوبية (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
في طريقي من الشويفات إلى فرن الشبّاك ولدى وصولي إلى تقاطع غاليري سمعان لم أجد نفسي إلا وقد فتلتُ مقود السيارة نحو اليسار متوجهاً – بكل تهوّري المعهود – إلى الضاحية. اجتزتُ تقاطع كنيسة مار مخايل وصولاً لمحلة المشرفية حيث ركنتُ بكل سذاجة سيارتي تحت الجسر. ترجّلتُ من السيارة ورحت أجوب الشوارع التي أعرفها عن ظهر قلب.
لست أدري كيف اتتني الجرأة لأن أقوم بهذه الزيارة إلى الضاحية بعد ليلة قصف جهنمي. 
لم أحسب ولا مرة أن الضاحية – حتى الضاحية!! – مهيأة لكل هذا الدمار وهذا الخراب. فبالإجمال إن الأبنية في حُسن هندامها أو حتى في بعضه لا تشي بكل هذا الخراب. 

بصرف النظر عن القبضة الحديدية التي أناخت بكلكلها فوق الضاحية منذ عقود وعقود، فإن الضاحية في وعيي هي مغامرة اليفاعة والمراهقة وصولاً إلى "قعدة الأرغيلة مع الشباب". فأنا ابن بلدة الشويفات حيث تداخُل المصائر الذي لا يني يتهيكل مع أبناء حي السلم والليلكي وحي العمروسية والمريجة والكفاءات وغيرها. "علي" عندي هو ذلك الذي يفهم بغمزة مني أني سأمرر له الكرة ليضعها في مرمى الخصم. و"جعفر" هو ذلك الذي لا يمكن لكرة الخصم أن تخترق مرماه. أما "حسين"، أبو الحساسين كما كنا نسمّيه، فهو ذلك الذي يجيد وضع الصمغ على شجر زيتون الشويفات لإلتقاط العصافير. و"محمود"، محمود الشاطر كما كان يُلقّب في مدرسة الشويفات الرسمية للصبيان والبنات، فهو صديقي الأعز الذي يحلّ لي فروض الرياضيات، أنا الكسول في هذه المادة. أحبّ الضاحية، أحبّها كثيراً وجاهدتُ مراراً كي أمقتها بسبب تلك القبضة الحديدية لكني فشلت.

خرجتُ من الشيّاح وأنا أرنو إلى السماء متابعاً صوت الـMK يحفر في الضاحية عميقاً. كنت أسير خبط عشواء متحنياً لحظة الركض والفرار على وقع صوت تلك الـMK.
لم أكن محل ارتباك أو خوف إذ ثمة ذاكرة أخرى كانت تشدّني إلى تسكعاتي العادية بل الممتعة في هذه الأنحاء إنما ذهني قد فاض بسبب حطام الأبنية وركامها بأولئك الذي قد ماتوا هنا.
سرب من الطيور المستعجلة أنبأني أن الذين قد قُتلوا هنا لم يُدفنوا تحت الأرض إنما يرفرفون بحزن فوق قامات منازلهم المحطمة. كنت قاب قوسين أو أدنى من تقاطع الغبيري لما، وبعفو الخاطر، ألمّت بذهني الحائر عبارة لا أعلم من قائلها: إذا وُلدتَ من دون أجنحة فلا تفعل شيئاً لمنع نموّها. 

وقفتُ عند تقاطع الغبيري وأنا أتأمل الفراغ والهلاك وأسنان الموت المسننة ورأيتني من غير قصدي أعدّل بعض كلمات تلك العبارة: إذا وُلدت من غير أجنحة فلا داعي لأن تقطع أجنحة غيرك وأكثر من هذا بكثير، لا داعي لأن تدفن نفسك تحت ركام بيتك وفي عمق الهلاك.
لم أكن أدري إذا ما تأتّى لمن هم تحت كل هذا الركام والهلاك أن تُسحب جثثهم، إنما – قلت لنفسي – لعلّ للجثث مآرب أخرى غير سحبها من تحت الركام!

لم أخمّن في يومي أن تلك الأبنية المتداخلة العشوائية الجميلة الحزينة الظاهرة والمتوارية في آن، قد صُممتْ لسبب واحد وهو سحب الجثث من تحت ركامها. فليلة الأمس المثقوبة بكم هائل من الصواريخ جذّرتْ في وعيي الحقيقة التالية: إن الضاحية ضحية لا ريب في ذلك، لكنها أيضاً أضحية... كبش فداء في معبد المصالح الكبرى للدول المتحاربة في هذه المنطقة من العالم. يخبرنا رينيه جيرار في كتاب "كبش الفداء" أن هذا الكبش المسكين الذي يُعمل على علفه باتّقان غالباً ما يكون وسيلة القبائل لتمتين أواصرها، لشدّ بنيانها وذلك من أجل إعادة التآلف بين زعمائها وناسها. دفعتني الضاحية – وأنا الآن تحت جسر المطار – بعد ليلة الصواريخ تلك لأن أتساءل عن ذلك البنيان الضخم الذي تسعى قبائل الدول المتقاتلة لإقامته فوق جثة الضاحية. دفعتني تلك الوجوه المستعجلة وصوت الـMK والفراغ والحطام وهسهسات الموت لأن أكرر على نفسي السؤال حول مآلات هذا الكبش المسكين... الضاحية\الأضحية اليافعة الحزينة الغاشية المسفوكة دمائها.

فكّرتُ للحظات بسيارتي المركونة بغباء تحت جسر المشرفية وخفتُ، لكن هذا الخوف المباغت سرعان ما تلاشى على وقع أحاديثي السرية مع الموتى وهي – بلا مؤاخذة – موهبة أتحلى بها منذ الطفولة. أسندتُ ظهري على أحد الجدران أستنشق رائحة غريبة. كل شيء هنا ميّت، كل شيء يرشح بتلك الأحاديث السرية.

قفلتُ عائداً بتأن مقصود وتلك الـMK اللعينة تحصي خطواتي، دقّات قلبي، الكلمات التي أرددها على نفسي وتحصي أيضاً رغبتي العارمة بارتشاف فنجان قهوة من أحد إكسبرسات الضاحية. لم أتوجّه إلى جسر المشرفية مباشرة بل لقيتني ألج ذلك الزاروب المواجه لأفران قلقاس باتجاه شارع المقداد متتبعاً تسكعاتي السابقة هناك وصولاً إلى الأوتوستراد المبعثر. 

ثمة توق إلى غموض من نوع آخر كان يستحثني على السير ببطء شديد، وثمة حيرة أربكتني، أنا الموزّع الآن بين جسد يسير بتمهل وجثة. عمدتُ إلى استثمار عينيّ إلى أقصى درجات النظر أثناء سيري فوق الأوتوستراد الذي كان يفرّ أمامي بذعر. عمدت أيضاً إلى استثمار أذنيّ علّي ألمّ بصوت آخر غير صوت الـMK والفاجعة.

على بُعد خطوات من سيارتي اليابانية المذعورة لفحتْ وجهي نسمة هواء تبدّتْ لي كنداء استغاثة. استغربتُ بشدة أن الهواء هنا ما زال طليقاً لكني استشعرتُ تلك الأصفاد التي تغلّ هذا الهواء عبر روائح غريبة عجيبة. حتى الهواء بلونه الرمادي مكبّل في سماء الضاحية.
قبل جسر المشرفية بأمتار قبالة محلات "استقبال للمفروشات المنزلية" بالتحديد شاهدتُ رجلاً وكان محلّ سكون غريب متأت ربما من الإنهمام بذاته وكان يدخّن سيجارة. "شو عندك هون؟" سألني وهو يناولني واحدة من سيدرزياته ... "ولا شي – قلت له – عم كسدر". أطرق في الأرض للحظات ومن دون أن يلتفت إليّ نفث دخان سيجارته بقوة وقال "معقولة راسك؟!!".

كلا، لا معقول في هذه البلاد. ألزمتُ نفسي بصمت مطبق حيال سؤال رجل السجائر الذي غادر بعد لحظات على متن دراجة نارية يقودها ولد. أما أنا، وعلى الرغم من أني أدرتُ محرّك سيارتي وسرت نحو غاليري سمعان ففرن الشباك ثم أمكنة بعيدة جداً عن الضاحية، أما أنا فأحسبني لم أغادر الضاحية يومذاك بالمرة. أما هي، أي الضاحية، وعبر كل ذلك الدمار الذي قد لامس روحي فلا أظن أنها سوف تغادرني يوماً.  
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها