لقاءات بكركي ووثيقتها: سلاح "الحزب" أسود على أبيض

لكنها بكركي، ليس فقط بما تؤمنه من "شرعية" مسيحية لأي خطاب سياسي، في بلد الطوائف وتوازناتها، إنما بما ترمز إليه من دور سياسي تأسيسي للجماعة المسيحية أولاً، وللبنان لاحقاً.

وعند اشتداد الأزمات ينتظر الكثيرون، وأحياناً من غير المسيحيين، أن تعلن بكركي الموقف المنحاز للفكرة اللبنانية بخصوصيتها وفرادة تجربتها في محيطها. هكذا حصل مع البطاركة الحويك وعريضة والمعوشي وصفير، في التاريخ الحديث، وقبلهم من مار يوحنا مارون إلى إرميا عبيد العمشيتي مروراً بجبرائيل حجولا ودانيال الحدشيتي واسطفان الدويهي وسائر البطاركة، كلّ بحسب زمانه وظروفه ومقر بطريركيته.

لا يعني ذلك أن مواقف البطاركة والكنيسة السياسية كانت تلقى إجماعاً مسيحياً حولها. على العكس، كان للانقسام الغلبة في معظم الأحيان. وتوزع الموارنة غالباً، بين مؤيدين لمواقف البطريركية السياسية ومعارضين لها، حسب المصالح والتحالفات و... الأمزجة.

لا يشذّ من يجتمعون اليوم في بكركي عن هذا السياق. كان لمعظمهم محطات مواجهة مع رأس الكنيسة، تزداد أو تخفت، بحجم ما يقترب أو يبتعد عن التقاطع معها. لكنها صفحات طويت؛ والبحث اليوم يَفترض أن يتمحور حول إنقاذ ما يمكن بعد إنقاذه من دور وحضور ورؤى لمستقبل لبنان والمسيحيين فيه.

وإذا كان التفاؤل بإنجاز ورقة تُجمع عليها القوى السياسية يحكم عمل مطران أبرشية انطلياس أنطوان بو نجم، وخلفه البطريركية، للوصول إلى ما يشبه خريطة طريق للحلول، تنعكس على البلد عموماً، فإن للقوى والأحزاب السياسية حسابات أخرى.

رسالة باسيل إلى حزب الله
بالأمس أكد رئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل "أن الوثيقة التي تحضر في بكركي هامّة، ولكنها لن تكون كافية إذا لم تكن مرفقة بخطة عمل أو "خطة مواجهة" لعملية الإقصاء التي تحصل بشكل واضح وممنهج ومبرمج من الأشخاص أنفسهم الذين يريدون وضعنا أمام خيار من اثنين، إما أن نسلّم بانتخاب الرئيس الذي يريدونه، أو يبقى البلد من دون رئيس ويحكمون من دوننا".

وكان باسيل على خلفية "الإقصاء" نفسه، قد ناشد بكركي علناً في عشاء لتياره إلى "أن تجمع القيادات لرفع الصوت بمواجهة عملية الإقصاء المتعمّد".

طالب بذلك، وهو يعرف أن الاجتماعات قائمة، وقد أوفد إليها من يمثّله. وهو ما اعتبره أحد المشاركين في اللقاء "تذاكٍ في غير موضعه، لتصوير بكركي وكأنها تلبي رغبات باسيل".

وإذا كان هذا الرأي تفصيلاً شكلياً، فإن جوهر ما أراده باسيل من اللقاء هو تأمين دعم بكركي لخطابه الأثير عن "حقوق المسيحيين" وفق رؤيته. لكنّ الأهم بالنسبة إليه هو الحصول على مظلتها المسيحية المعنوية، والإيحاء بترميم الجسور مع القوى المسيحية المعارضة، في رسالة لا تحتمل الالتباس إلى حزب الله.

سلاح الحزب: أسود على أبيض
يعرف كل من يشاركون في اللقاء أهداف باسيل. لذا، تحرص كل الأحزاب المشاركة من قوات وكتائب وأحرار ومستقلين على رفع السقف. ويصرون على أن تتضمن الوثيقة التي ستصدر مطالبة واضحة بتخلي حزب الله عن سلاحه، والانخراط في مشروع الدولة ووقف تفرده بقرارات تطال حياة ومستقبل كل اللبنانيين. "وضوح لا يقبل الالتباس: أسود على أبيض".

وهنا جوهر المشكلة والنقاش. فالمشاركون في اللقاء لا يختلفون على وجوب مكافحة الفساد، ولا التوازن في الإدارة ومؤسسات الدولة. لا يختلفون على رفض توطين الفلسطينيين ولا ارتفاع مخاطر النزوح السوري. جميعهم يطالبون بوجوب الإسراع بانتخاب رئيس، ومقارباتهم الاقتصادية تتمايز بتفاصيل وليس بالجوهر.

صحيح أن شياطين التفاصيل قد تُظهّر بعض الخلافات، إلا أنها من النوع الذي يمكن معالجته بنقاشات وتفاهمات وتحالفات هي جزء من العمل السياسي اليومي.

لكن يبقى حزب الله و"دولته" الموازية، ومن ضمنها سلاحه، وقدرته على فرض "أجندته" مصدر الخلاف الأبرز. وفي هذا السياق، فإن موقف بكركي أقرب في جذريته في موضوع السلاح من المعارضة. وهو ما تعكسه بوضوح، مؤخراً، كل عظات البطريرك وبيانات مجلس الأساقفة.

فبكركي، التي تحرص على أفضل العلاقات مع كل المكونات اللبنانية، خلُصت، بعد مجموعة تجارب، إلى أن حزب الله يملك "رؤيته" الخاصة للبنان ولدوره فيه. وهو "لا يراعي ولا يستشير أحداً عند قرار بأهمية شن حرب وتحميل البلد أوزارها".

ومع ذلك، تريد بكركي في وثيقتها أن تفتح ابواباً للتلاقي حول "لبنان الذي نريد"، انطلاقاً من إجماع مسيحي أولاً، يمد اليد لسائر الجماعات اللبنانية، علّها تستطيع أن تجد مساحات مشتركة تنطلق منها... مساحات تزداد ضيقاً يوماً بعد آخر.