الجمعة 2024/09/27

آخر تحديث: 10:53 (بيروت)

حين تتكرر مأساة النازحين: "كأن أرواحنا سُلبت منا"

الجمعة 2024/09/27
حين تتكرر مأساة النازحين: "كأن أرواحنا سُلبت منا"
تقول نازحة: كنا نعتقد أن ما عشناه في 2006 هو الأصعب، لكن 2024 أظهرت لنا العكس (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
"غادرنا منزلنا ونحن نشعر وكأن روحنا تُسلب منا"، بهذه الكلمات وصف خليل رحلته القاسية مع عائلته، إذ أمضى 19 ساعة في السيارة هاربًا من بلدته كفرا إلى بيروت. لم تكن هذه المرة الأولى التي ينزح فيها من جنوب لبنان، فقد اضطر إلى النزوح في حرب تموز 2006 لمدة 15 يومًا، لكنه لم يغادر فور اندلاع الحرب.

طوابير السيارات التي امتدت من الجنوب إلى الأولي في اليوم الأول من التصعيد الإسرائيلي، حملت معها مشاهد الخوف والتوتر. كان الخوف الأكبر من غارة قد تستهدف حبل السيارات، أو من البقاء عالقين في الطريق والموت خنقًا أو من الجوع والعطش. والمشهد الأكثر بؤساً هو مغادرة المنازل من دون معرفة الوجهة أو المستقبل.

في حرب تموز، كان هناك أفق واضح، فالجميع كان يدرك أن الحرب ستنتهي وأن العودة حتمية. منذ الأيام الأولى، كان المجتمع الدولي يعمل على وقف إطلاق النار، وكانت حدود المعركة معروفة. أما اليوم، فإن الخوف يسكن في عيون الناس لأن الحرب المستمرة في غزة منذ عام لم تُحسم، وفي لبنان، قد تستمر لأكثر من سنة، من دون أي أفق للعودة.

الناس اليوم يغادرون وخلفهم ذكرياتهم، أعمالهم وأرزاقهم، متجهين إلى وجهة غير معروفة، من دون أن يعلموا متى أو كيف سيعودون.

في مشهد يعيدنا إلى أيام حرب تموز 2006، تظهر مجددًا صور الحياة اليومية في زمن الحرب. الأطفال يلعبون في الأزقة غير مبالين بما يجري حولهم، بينما تتجمع الناس حول "الأراغيل" في الزوايا والأحياء الشعبية، ليس داخل المنازل، بل على الأرصفة وفي الطرقات. تستمر جلسات لعب الورق والبرجيس لساعات طويلة، وكأنها طقوس تعزز الألفة، رغم توتر الأجواء.
وتختلط الضحكات المتعالية بمشاعر الخوف والترقب التي تظهر بوضوح في العيون القلقة. كما تعود مشاهد النوم على "الفرش" المفروشة على الأرض في الشوارع والملاجئ، بينما يستمر الازدحام المروري وضجيج الشوارع. إنها مشاهد تختصر تناقضات الحياة تحت ظل الأزمات.

المشهد يتكرر... مضخماً
رنا غناوي، من بلدة حولا وساكنة في كفررمان، رفضت النزوح من منزلها رغم الحرب، إلى أن نجت بأعجوبة من غارة على كفررمان قبل ثلاثة أيام، ما أجبرها على التهجير إلى المغيرية. تروي رنا لـ "المدن":"كنا نعتقد أن ما عشناه في 2006 هو الأصعب، لكن 2024 أظهرت لنا العكس".
وتضيف: "أشعر وكأن كل الأحداث déjà vu، لكن في 2006 كانت الأمور أخف وطأة. الآن كل شيء مضخّم."

تتابع رنا حديثها وهي تبكي: "أولادي يجلسون الآن كما جلست أنا منذ 17 عامًا، بين الفرش. شاهدت أولادي يعيشون نفس الظروف التي مررت بها. لكي لا يشعر ابني بالتهجير والذل الذي شعرت به في عمره، اشتريت له لعبة."

وتضيف الناشطة الاجتماعية، التي كانت في 2006 طالبة جامعية، أما اليوم فهي أم لطفلين: "في 2006 كان أهلي مسؤولين عني، أما اليوم فأنا مسؤولة عن أهلي وعن ولديّ. أشعر في هذه الحرب أن أهلي أصبحوا كأطفالي، أنا أمّ لأهلي الذين أنجبوني. وقد تعمقت في ذهني فكرة أن هناك من يعتمد عليّ للحياة، ولذلك لا يمكنني الاستشهاد."

تختم رنا شهادتها قائلة: "في 2006 لم أعايش أحداثًا بهذا الشكل، رغم أنني كنت مسعفة حينها. لم أتعامل مع أشلاء. أما في هذه الحرب، فقد رأيت الناس يتقطعون أمامي. ابني سألني: 'ما هذا الشيء الذي يحترق؟' قلت له: 'كرتون'، ولم أستطع أن أخبره الحقيقة."

بين 2006و2024
تعيش مها، أم لولدين، تجربة مشابهة لما مرّت به قبل سنوات. هي من سكان الضاحية الجنوبية، وقد تهجرت في حرب تموز 2006 إلى منزل أقاربها في منطقة الطريق الجديدة. لم تزر ذلك المنزل منذ ذلك الوقت، لكنها تعود إليه مجددًا في عام 2024، بنفس الطريقة، كمهجرة وليس كزائرة. تعبّر مها لـ "المدن": "في حرب تموز، كانت الضاحية كمدينة أشباح، رغم أن الطريق الجديدة تبعد 10 دقائق فقط، لكن عندما وصلنا إليها، كان الأمر وكأننا سافرنا إلى بلد آخر. حياة أخرى تمامًا، وكأن لا حرب قائمة. حتى أننا خرجنا في نزهات وأكلنا البوظة." اليوم، تضيف مها، "حتى الناس في بيروت يعيشون في حالة من الخوف والترقب".

أما محي الدين، الذي كان من سكان بيروت خلال حرب تموز 2006 وكان يبلغ من العمر حينها 18 عامًا، فيصف تجربته بين سنّ الـ 18 والـ37، اليوم وهو من سكان الضاحية الجنوبية. يقول: "في 2006 كانت أجواء الحرب جديدة بالنسبة لنا؛ الأصوات، القصف، والنزوح. لم نشعر بالخوف الشديد آنذاك لأننا كنا نعلم أن الضربات تتركز في مناطق معينة، ولم تكن تطال الجميع. أما اليوم، الوضع مختلف، لا ندري إذا كانت الضربات ستظل محصورة في أماكن محددة أم أنها قد تصل إلى الجميع."

يكمل محي الدين حديثه قائلًا: "اليوم، أنا أب لولدين. هربت لأحمي عائلتي، لكن المسؤولية أصبحت أكبر. بصفتي أباً، أشعر بثقل المسؤولية تجاه عائلتي. رغم الخطر الذي يحيط بنا، لا أملك خيارًا سوى الاستمرار في التوجه إلى العمل، لأؤمن لقمة العيش لعائلتي. في 2006 كنت فقط شابًا قلقًا على نفسي، أما اليوم فالأمر مختلف تمامًا. المسؤولية لا تتعلق فقط بالخوف على نفسي، بل بحماية أسرتي وضمان بقائنا. هذا الإحساس لم أكن أعيشه في تلك الحرب، كان خوفي شخصيًا، أما اليوم فهو أكبر بكثير."

منذ العام 2006 وحتى اليوم، تبدلت الكثير من الأمور؛ تغيرت الأحداث، كبر الأشخاص، وتغيرت أيضًا ملامح الحرب. في 2006، لم يكن حزب الله منتشرًا بهذا القدر، ولم تكن ترسانته العسكرية بهذه القوة. كان هناك دعم واضح من الدول العربية، ولم تكن مواقع التواصل الاجتماعي تلعب دورًا كبيرًا في كشف تفاصيل الحرب كما تفعل اليوم.

أما في حرب 2024، فهناك شيء واحد بقي ثابتًا: بلدنا ومشاهد الحرب التي عشناها نحن في الماضي ويعيشها أبناؤنا اليوم. رغم تغير الزمن وتطور الوسائل، إلا أن شيئًا واحدًا لم يتغير: غياب الاستعداد، وتجهيزات الدولة لمواجهة حرب محتملة، رغم أن التهديدات كانت واضحة منذ حوالي السنة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها