السبت 2024/10/12

آخر تحديث: 17:18 (بيروت)

قلوبنا العالقة في بيوت الضاحية

السبت 2024/10/12
قلوبنا العالقة في بيوت الضاحية
كانت المنطقة شبيهة بالأرياف، غير مكتظة بالسكان، ومليئة بالأشجار (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
غادرت وعائلتي الضاحية الجنوبية لبيروت، في العشرين من أيلول الفائت، تاريخ اغتيال القيادي في حزب الله إبراهيم عقيل. كان حتميًّا علينا الرحيل عن منزلنا الذي يبعد أمتارًا قليلة عن موقع الاستهداف. وإن كنت لم أتصور في حياتي أن تكون منطقتي، وشارع بيتي، مخيفين لهذه الدرجة، إلّا أن الاستهداف هذا وبوحشيته، أطاح بكل تصوراتي الشخصيّة للأمان.

وصلت المنزل، وجدت أمي تُرتب البيت قبل خروجنا منه. أغلقت النوافذ وأسدلت السّتائر، لكنها لم تُطفئ أنوار غرفة جلوسنا، قائلةً بتململٍ وهي تُحدّج البيت بنظرةٍ وداعيّة "البيت المظلم، بيتٌ مهجور". أقفلت الباب وحملقت به ثوانٍ معدودة ومضت.

الجيران أمام المدخل، ترتفع أصواتهم وهم يتبادلون الدعاء والوداع، ثمّ تنخفض إلى لحظاتٍ من السكوت الحرج.

لا وجهةً يقصدونها. يحملون حقائب صغيرة، يتسابقون للوصول إلى سياراتهم في المرأب. كانوا يتصورون أن ترحالهم، مؤقت، سيعودون حتمًا بعد أيام. حتّى اللحظة لا عودة.

بعد أيامٍ، رفض والدي البقاء خارج المنزل، كان مُصرًّا على العودة، اتفق مع أحد الجيران وقررا الرجوع. في هذا اليوم تحديدًا، شنّ سلاح الجوّ الإسرائيليّ غارات عنيفة على الضاحية الجنوبيّة، بالقرب من منزلنا.

انتقلنا إلى الضاحية الجنوبية في العام 1995، اشترى أبي هذه الشقة بعد سنوات من العمل المتواصل لادخار ثمنها. كانت المنطقة شبيهة بالأرياف، غير مُكتظة بالسكان، تحيط بها الأشجار والحدائق. ظلّ يردد لسنوات أن هذه الشقة هي كل ما يملك في هذا الوطن. عاش فيها طيلة فترة شبابه وبقي بداخلها حتى وصوله لسن التقاعد. قضى عمرًا كاملًا فيها.

منذ أيام، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيليّ خريطة للمنطقة المُراد استهدافها في الضاحية الجنوبيّة. كانت منطقتنا. تجمعنا أمام شاشات التلفزيون، كانت النيران تشتعل أمام عدسات الكاميرات، والصواريخ تتساقط على المنطقة، وقلوبنا تحترق، خوفًا من أن تطال إحدى الصواريخ منازلنا، فتدمرّ ما تبقى لنا من ذكريات. غارات عنيفة مُتواصلة، وبعد ساعات، عمّم أدرعي خرائط أخرى، كانت لأحياء قريبة من شارعنا. خرائط عديدة لمنطقة واحدة مكتظة ومبانيها ملاصقة لبعضها البعض، وكأنه أراد في ذلك اليوم، إخفاء هذه المنطقة بما فيها عن الخريطة.

زرت المنطقة منذ حوالي الأسبوعين. كان الشارع غريبًا، فارغًا ومدمرًا. رائحة البارود والموت تفوح فيه. كنت بحاجة لإخراج ملابسي، فتحت الباب بهدوء، تمامًا كما أقفلته والدتي، وضعت بعضًا من ثيابي في أكياسٍ صغيرة. جلت في المنزل للحظات. كان مُظلمًا، الزجاج متناثر على الأرض، أبواب الشرفات مخلوعة نتيجة ضغط الانفجارات. لم يعد بيتي كما تركناه.

تتساءل والدتي يوميًا عن تاريخ عودتنا للمنزل، تتواصل مع الجيران لتسألهم عن حال الدمار في شارعنا. أحد الجيران أنشأ مجموعة على تطبيق "الواتس أب"، فيها كل سكان المبنى. وفي صباح كل يوم، يذهب أحدهم للمنطقة للإطمئنان على بيوت السكان. يبلغنا على المجموعة أن المبنى لا يزال واقفًا. هذه الرسالة القصيرة تكون كفيلة بتثليج قلوب السكان. لكنه بعد يومين، أبلغنا في رسالة صوتية، أن الدمار طال شارعنا. لم يسقط المبنى، لكن المباني الملاصقة له تعرضت لغارات عنيفة وتضررت بشكل كبير..."، ومنذ أكثر من 5 أيام، لم تصلنا أي رسالة عن حال المبنى أو الشارع، فالغارات الأخيرة طالت المنطقة بشكل عنيف، والطرق المؤدية لشارعنا، تدمرت بشكل كبير.

مضى على مكوثي في مدينة بيروت أكثر من ثلاثة أسابيع. مرّت وكأنها ثلاث سنوات صعبة وقاسية. أكتب هذه العبارات وأنا أفتح بإصبعي رسالة وصلتني من أحد سماسرة الشقق السكنية، يقول فيها: "غرفتان ومطبخ، في منطقة آمنة، خالي من الأثاث، 1200 دولار أميركي، شهر عمولة، شهر تأمين، والدفع عن ثلاثة أشهر مسبقة".  

وبالعودة إلى تصوراتي الشخصية، لم أكن أتوقع في حياتي أن أشتاق إلى بيتي ومنطقتي، وضاحيتي وشوارعها المزدحمة وأهلها ومتاجرها. أنا التي كنت أبحث عن أقل الذرائع لمغادرتها، لكنني أدركت مؤخرًا، أن البيت ليس مزيجًا من الأحجار والإسمنت، بل هو طفولة المرء، وذكرياته ودفء علاقاته وذاك الشعور العميق بالأمان.

وهكذا أبقى، أنا وسكّان منطقةٍ برمتها، سكان مدينةٍ ليست العاصمة بل ضاحيتها، بلا بيوتنا، بانتظار العودة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها