كثيراً ما انتقد اللبنانيون "الصناعة الصينية" القائمة على "تقليد" الماركات العالمية. وها هي الدولة اللبنانية بذاتها اليوم، تقلد الصين، بل تسرق تراثاً وطنياً صينياً عمره 1000 عام في الفنون القتالية، وتنسبه إليها، مع ترخيص وزارة الشباب والرياضة لـ"اتحاد رياضة المهارة". و"المهارة" هي نفسها أسلوب "التوي شو" الصيني المدرج في الاتحاد الدولي للووشو كونغ فو، في فضيحة تكشفها "المدن"، واضعة وزارتي الاقتصاد، مانحة "براءة الاختراع"، ووزارة الشباب والرياضة، مانحة رخصة الاتحاد، أمام مسؤوليتهما لتصحيح الخلل، قبل محاسبة لبنان أولمبياً، ووصول الفضيحة لـ"العالمية"!
و"المهارة" التي ادّعى الغراند ماستر نجا بو كرّوم اختراعها ومجيء وحيها إليه في لحظة "نوم" عميق، "أغمضت" وزارة الشباب والرياضة عينيها عن حقيقتها، فلعبها أطفال المدارس في لبنان، على أنها "تراث لبناني". ويكشف تامر عبد الباقي، أمين سر "لجنة المهارة" المستقيل، لـ"المدن"، كيف اكتشف الخديعة منذ أشهر، فقرر المواجهة، ليصطدم بتخاذل وزارة الشباب والرياضة، وكذلك الاتحاد اللبناني للووشو كونغ فو عن إيقاف هذه المهزلة، على الرغم من اعتراف الأخير بها (المستند أدناه)!
تخاذل، قد يعرّض لبنان لأزمة أولمبية إذا لم تتراجع وزارة الشباب والرياضة عن ترخيص "اتحاد المهارة"، وفق مصدر رفيع في الاتحاد الدولي للووشو كونغ فو. "أزمة قد تصل لقطع الاتحاد الدولي علاقته بالاتحاد اللبناني، وحرمان لبنان لعب أساليب الكونغ فو عالمياً".
اكتشاف الخديعة
صدّق تامر عبد الباقي، وهو حكم في 4 رياضات للفنون القتالية، اختراع معلمه الماستر نجا بو كروم، رئيس نادي فالكون، للعبة فنون قتالية "لبنانية" هي الأولى في العالم العربي، وكذلك صدّقه اللبنانيون، وربما العرب.
ووضع تامر كل ثقله و"صيته" الرياضي لأجل "المهارة"، مسوقاً لها في الإعلام والمدارس اللبنانية وأندية الفنون القتالية على أنها "لعبة وطنية". وصحيح أنه حكم في أسلوبين من "الكونغ فو"، هما "الساندا" و"الجيت كون دو"، لكنه لم يكن على اطلاع بأسلوب "توي شو"، سيما وأنّ الكونغ فو تتضمن عشرات الأساليب.
و"المهارة" قوامها جعل قدمي الخصم تخرجان من الحلبة الدائرية، لكن بأسلوب "آمن" للاعبين، ولا تتضمن تقنية التثبيت على الأرض، وهي جميعها شروط أسلوب "توي شو" الصينية. واستسهل بو كروم نسخ اللعبة كما هي، ما جعل خبراء ومدربين رياضيين مطلعين على أسلوب "توي شو" الصينيّ، "يفتحون" عيني عبد الباقي على الخديعة.
في السياق، يقول عبد الباقي لـ"المدن": الشعور بالذنب لتسويقي لخديعة لا يفارقني، ورؤية الأهالي والطلبة مندفعين للعبة على أنها "لبنانية" ويدفعون لبعدها الوطنيّ اشتراكات التدريب، أمر لا أحمله على ضميري، ولا أريد لإسمي أن يبقى من بين المؤسسين لأكذوبة اتحاد المهارة".
التزوير بدءاً من وزارة الاقتصاد: براءة اختراع ساقطة
إذا كان من "مهارة" يعلّمها نجا بو كروم للبنانيين بتسجيله براءة اختراع للعبة صينية عمرها ألف عام على أنها لبنانية، فهي مهارة استغلال ضعف الآليات التشريعية والتنظيمية لبراءات الاختراع في لبنان.
فاستنساخ أسلوب "توي شو" الصينيّ بدأ بمنح براءة الاختراع لها بتاريخ 28/9/2021 على أنها "أثر أدبي وفني لبناني المنشأ والهوية". وفي مصلحة حماية الملكية الفكرية في وزارة الاقتصاد، سجلت في القلم بربع ساعة فقط.
هنا يبرز ضعف آلية تسجيل براءات الاختراع في لبنان، والتي تعلق عليها الدكتورة سابين الكيك "بضرورة تحديث الآلية على المستويين التشريعي والتنظيمي"، حيث تعطى براءات الاختراع بناء على أبحاث دقيقة، وليس من دون أدنى خلفية بحثية. فالتثبت من براءة الاختراع عملية معقدة جداً، وتتطلب محامين متخصصين وكلفة باهظة بعشرات آلاف الدولارات لتسجيل البراءة في شركات تسجيل براءات الاختراع العالمية، لقاء البحوث المضنية التي تجرى للتثبت من البراءة.
تقديم الاستقالة
أما مسؤولية وزارة الشباب والرياضة، فتتخطى ضعف "الآليات" التنظيمية والتشريعية، لتتعداها بالتواطؤ أو المساهمة أقله في إعطاء رخصة لاتحاد رياضة يُدّعى أنها لبنانيّ المنشأ من غير وجه حقّ، وتسعى مستقبلاً "للعالمية"، وهو ما سيقحم لبنان طبعاً بتبعات لا تحمد عقباها في الرياضة الأولمبية العالمية، عدا عن "الفضيحة" الدولية.
ومنحت الوزارة ترخيص "رياضة المهارة"، وترخيص "لجنة لإدارة رياضة المهارة" المؤلفة من 4 نواد بتاريخ 2 آذار 2022. وفي 2 آذار 2023، أي بعد عام، منحت رخصة "اتحاد المهارة".
وقدّم تامر عبد الباقي استقالته كأمين عام لـ"لجنة المهارة"، بتاريخ 5 نيسان الماضي، كاشفا للوزارة أنها هي نفسها أسلوب التوي شو الصيني (المستند أدناه)، رفضا للفساد والمشاركة فيه، ليصطدم لاحقا بأنّ الترخيص لاتحاد المهارة حصل قبل شهر من تقديم استقالته.
ويظهر المستند تقديم عبد الباقي استقالته من أمانة سر "اللجنة" وليس "الاتحاد". ويسأل: "لماذا لم يتم إطلاعي كأمين سر اللجنة بصدور رخصة الاتحاد للعبة حينها؟"، لافتاً إلى أنه "سبق أن تقدمت للوزارة باستقالة قبل أشهر، مع بداية شكوكي بالمهارة، لكنها لم تسجل في القلم، بعد تمني رئيس مصلحة الرياضة في الوزارة محمد عويدات عليّ ذلك".
عويدات.. مايسترو الاتحادات؟
مغالطات كثيرة تحوم حول إصدار رخصة لاتحاد "في عام واحد"، فلا اتحاد عربياً أو دولياً يدعمه. وإذا كانت حجة وزارة الشباب والرياضة هي تشجيع الصناعة "الوطنية"، فالسؤال يطرح: ألا يوجد في الوزارة خبراء بأسلوب "توي شو" الصيني لكشف التزوير الواقع؟ وما دور الوزارة إذاً إن لم يكن التدقيق بطلبات التراخيص المقدمة لديها؟!
أكثر من ذلك: لماذا لم تحرك الوزارة ساكنا حتى بعد كتاب استقالة عبد الباقي، مع أنه بمثابة "إبلاغ للوزارة" حول حقيقة المهارة؟ ولماذا لم تحكّم خبراء في الفنون القتالية أو تراسل اتحاد الووشو كونغ فو القادر على حسم المسألة تصحيحاً لسقطة بهذا الحجم؟
تجاهل الوزارة، يتماهى مع نهجها بترخيص اتحادات غير مستوفية للشروط، وما إيقاف مجلس شورى الدولة تنفيذ ترخيص 3 اتحادات أقرتها الوزارة حديثا، إلا دليل على ذلك. وهو ما يثير الريبة حول طريقة إصدار رخص الاتحادات في الوزارة، والتي تمرّ عبر مصلحة الشباب والرياضة، ورئيس المصلحة محمد عويدات، فالمدير العام (الموقع شاغر منذ كانون الثاني الماضي)، ثم وزير الشباب والرياضة، جورج كلاس.
الوزير كلاس لم يهزه قرار مجلس الشورى، ولا اعتراف عبد الباقي الخطيّ بحقيقة المهارة. وفي مقابلة إعلامية حديثة له، حصر عمله بمهمة "التوقيع" على طلبات رخص الاتحادات، "المستوفاة للشروط بموافقة اللجنة الرياضية والقانونية والفنية في الوزارة عليها"، علماً أنّه في ظل شغور منصب المدير العام، فعويدات هو "مايسترو" الاتحادات في الوزارة.
ويقرّ رئيس اللجنة الأولمبية اللبنانية، بيار جلخ في حديثه لـ"المدن"، أن الوزارة توزع الرخص "شمالاً ويميناً" لاتحادات غير مستوفية للشروط، ما يخرب الرياضة في لبنان، وبدورنا رفضنا ضم 3 اتحادات مؤخراً.
وعن الحماسة لاستحداث اتحادات من ميزانية وزارة الشباب والرياضة "غير المحرزة" بعد الانهيار، فتفسرها مصادر متقاطعة، من بينها جلخ، بهدف السيطرة على اللجنة الأولمبية، التي "تحاول بعض الأحزاب السيطرة عليها" وعينها على "صندوق التضامن الأولمبي".
اتحاد الكونغ فو: إعمل نفسك ميّت
"اتحاد طويل عريض لا يريد أن يقف بوجه الفساد"، بهذه الكلمات يعبّر أحد مدربي ألعاب الفنون القتالية عن استيائه من صمت اتحاد الووشو كونغ فو اللبناني حيال سرقة أسلوب "توي شو" الصيني بترخيص ومباركة من وزارة الرياضة.
إلا أن الاتحاد اللبناني للووشو كونغ فو، اعترف خطياً خلال رد على استفسار تامر عبد الباقي في أيار الماضي، بأن "مهارة" هي "توي شو". فـ"التقنيات المتبعة في رياضة المهارة هي نفسها المتبعة في رياضة التوي شو الصينية والتي تمارس منذ أن نشأ الاتحاد اللبناني للووشو كونغ فو".
أما الصدمة فكانت بقول الاتحاد "بما أن تسمية هذه الرياضة (المهارة) بإسم غير صيني فلا مانع لدينا من ممارستها ونحن لا نعترض عليها كاتحاد".
وقاد اتحاد الووشو الكونغ فو بمعركة طاحنة ضد "اتحاد الجيت كون دو"، بما أن الجيت كون دو هو أسلوب من الكونغ فو. فما الذي يثني الاتحاد عن الدفاع عن "التوي الشو" المؤتمن على حمايته في لبنان شأنه شأن الجيت كون دو، انطلاقاً من وكالته وتمثيله للاتحاد الدولي للووشو كونغ فو في لبنان؟
مصدر في الاتحاد الدولي: لبنان تحت المساءلة
يبرر الاتحاد موقفه بأنّ إسم المهارة "غير صيني"، وهو تبرير ساقط، باعتراف مصدر في الاتحاد الدولي للووشو كونغ فو، يوضح أنه "لا يمكن لأي دولة إنشاء اتحادين يقومان على أسلوب الووشو كونغ فو". فالمشكلة ليست بإسم اللعبة بل بأسلوبها المسروق.
ويكمل المصدر "لا يمكن للبنان ترخيص أسلوب التوي شو باتحادين، وهو ما يقحم الدولة المعنية بأزمة". فمن مهام الاتحاد اللبنانيّ للعبة بصفته ممثلا للاتحاد الدولي لها في لبنان، منع التعدي على الكونغ فو وأساليبها، والتغاضي عن التعديات، يتسبب بتحرك الاتحاد الدولي للعبة، وصولاً في حالة التصعيد إلى إيقاف الكونغ فو في لبنان.
لإيقاف المهزلة فوراً!
صفة "الوطنية" الممنوحة للعبة مهارة، تجعل التزوير يستقطب لدعمها تمويلاً غير مستحق. وسكوت الوزارات المعنية واتحاد الكونغ فو في لبنان، قد يفتح الشهية لتزوير أساليب رياضية أخرى تحت مسميات لبنانية، عدا عن تهديد لعبة الكونغ فو في لبنان، كرمى لعيون "المهارة"!
"اللعبة آمنة وغير مؤذية"، روّج لها بو كروم، وهو اليوم ومن شاركه في التستر عن التزوير، يتسبب بأذى للبنان الدولة. والمطلوب تصحيح الخطأ بدءاً من إسقاط براءة الاختراع في وزارة الاقتصاد، وصولا لوقف تنفيذ رخصة "اتحاد المهارة".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها