الأربعاء 2023/12/27

آخر تحديث: 00:32 (بيروت)

غسان أبو ستّة بمسرح المدينة: التّوغل عميقًا بقلب المجزرة

الأربعاء 2023/12/27
غسان أبو ستّة بمسرح المدينة: التّوغل عميقًا بقلب المجزرة
أبو ستة والى جانبه الكاتب صقر أبو فخر الذي ألقى كلمة افتتاح اللقاء في مسرح المدينة
increase حجم الخط decrease

وقفة صمت، تصفيقٌ حارّ وموصول، نداءات بالحريّة لفلسطين، مسرحٌ ضخم غصّ بالعشرات من المتشوقين لرؤية الجرّاح الذي خرج من غزّة ليروي الأهوال التّي ينسحق تحتها القطاع المُحاصر، عشرات من لبسة الكوفيات، من المتضامنين ومن الباكين، احتلوا جميع الكراسي، افترشوا الأرض، وقفوا في زاويا مواربة، متراصين جنبًا إلى جنب، محملقين بمطلق الانتباه بالراوي الذي جلس منتصف خشبة المسرح وتحت ضوءٍ ساطع، للحديث عن غزّة من قلب العاصمة بيروت، بصوته الخفيض، ولكنته اللّبقة وملامح وجهه السّمحة.

كان الجرّاح الفلسطينيّ- البريطانيّ غسان أبو ستّة اليوم، محور الاهتمام: المُحتفى والمُرحب به أيما حفاوة، المُحرج والخجل من هذه الحفاوة، الطبيب الذي خرج من قلب المعركة معافى الجسد معتل القلب، الناجي الذي بقيّ ليحكي عما حلَّ بشعبه وأبناء جلدته.. إلا أنّه وفي الواقع كان أبعد من هذا وذاك، كان التّجلي المتعريّ عن كل قيد للإنسان، بعيدًا عن كل الإسقاطات المبتذلة للبطولة، اللاجئ وصاحب الحقّ المهدور، المبتسم، والدامع، والمتأثر، والمتنبئ.

محاضرة عن التّجربة الغزاويّة
مساء اليوم الثلاثاء، 26 كانون الأوّل الجاري، أُقيمت على خشبة "مسرح المدينة" في الحمرا، محاضرة تحت عنوان "تدمير القطاع الصحّي في غزّة، مواجهة الكارثة والتّهجير"، واُستهلت المحاضرة بكلمة عرفان للجهود الإنسانيّة التّي قام بها أبو ستّة، ألقاها الكاتب صقر ابو فخر، ثمّ تولى أبو ستّة دفّة الحديث مُلقيًّا الضوء على حرب الإبادة المستمرة في غزّة، بوصفه شاهدًا على تدمير الاحتلال للمستشفيات والمراكز الصحّية في الحرب التّي شنّها على غزّة متسببًا بكارثة عامة وممنهجة سعيًّا وراء تفكيك مفاصل الحياة الفلسطينيّة كلّها، وجعل المكان غير قابل لأشكال البقاء كلها. وتطرق أبو سّتة في محاضرته عن المسؤولية الجماعيّة لمنع تحقق التّطهير العرقيّ، ومقاومة إعادة إنتاج الذلّ الناجم عن اللجوء وأهمية إعادة بناء القطاع الصحّي بأقصى سرعة ممكنة للحدّ من الوضع الكارثي الذي يساهم في مشاريع التّهجير.

وإذ تشابه فحوى المحاضرة مع ما نقله أبو ستّة في الندوات السّابقة التّي أقيمت في المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات في الدوحة، وكذلك التّي أقيمت في الجامعة الأميركيّة في بيروت (راجع "المدن")، إلا أن السّرد التّسلسلي لمجريات ما حلّ بأهالي غزّة منذ بداية الحرب حتّى حينه، احتمل المزيد من التّفاصيل التّي نقلها أبو ستّة للمرة الأولى. ومن مشاهداته للانهيار التّدريجيّ للقطاع الصحّي، منذ وصوله إلى مشفى الشفاء (أكبر المجمعات الصحيّة في غزّة) في العاشر من تشرين الأوّل، حتّى انتقاله إلى مستشفى العودة في جباليا وصولًا للمستشفى المعمدانيّ الأهليّ جنوبي القطاع، وانخراطه الميدانيّ بأعمال النجدّة والاسعافات لدى وقوع المجزرة التّي حصلت بتاريخ 17 تشرين الأوّل؛ داحضًا رواية الإعلام الغربي الذي تبنى السّردية الإسرائيليّة في كون المجزرة قد وقعت نتيجة صاروخ فلسطينيّ شذّ عن هدفه، مشيرًا للاستهداف المباشر للنازحين الذي احتموا بالمشفى.

واعتبر أبو ستّة، أن مجزرة المعمداني كانت مقصودة، لجس نبض الغرب إزاء التّدمير الممنهج للقطاع الصحيّ الفلسطينيّ بداية بأكثر المستشفيات صلّةً بالدول الغربيّة، وإزاء الصمت الدوليّ، استأنفت المجزرة التّي بسببها انهار القطاع ولم يعد هناك أي مجال للاهتمام بالجرحى الذين تتراكم أعدادهم يومًا بعد الآخر، من دون وجود معدات وأدويّة لمساعدتهم (55 ألف جريح، 25 ألف طفل جريح ثمانون بالمئة منهم بحاجة إلى عمليات جراحيّة عاجلة).. واستطرد بالقول أن حرب الإبادة هذه هي الأولى من نوعها منذ الإبادة الأرمنيّة، وإبادة منهجيّة بحيث كل يوم يُحدد بنك الأهداف بناءً على نزعة الكيان الشيطانيّة. وتطرق ليوم مغادرته المستشفى بعد انقطاع كل أدويّة التخدير للعمليات الجراحيّة، وسيره على الأقدام إلى مخيّم النصيرات للاجئين الفلسطينيين وسط القطاع، بعدما قرّر المغادرة عندما لم يعد يملك ما يقدمه وقتها.

العطاء الفلسطينيّ والأولويّة اليوم
فيما وقف الجرّاح عند نقطة العطاء الفلسطينيّ الذي فكّك السّرديّة الغربيّة بفردانيّة المجتمع، راويًّا وبعد غصةٍ تلتها دموع ما لمسه مباشرةً من هذا العطاء، وتحديدًا بعدما أجرى عمليّة بتر لأحد الأطفال الذي فقد كل أسرته، وفي اليوم الثّاني تفاجأ أن أمًّا من الجرحى تُطعم الطفل من حصّة ابنها البيولوجيّ. وتحدث عن الحلاق الذي قام بالاهتمام بالطواقم الطبيّة وهندامهم وقصّ شعرهم كعربون شكر لجهودهم، كل ذلك وتحت القصف. مُشيرًا إلى التّماهي المجتمعيّ والتعاضدّ المذهل والإيثار الذي رآهما بأمّ العين.

واعتبر أن الهدف اليوم يكمن في خلق بدائل عن المنظمات التّي تدعي أنها انسانيّة لكنها احتلالٌ مُقنع في الواقع، وأن إعادة الإعمار وإمداد المنكوبين بالمساعدات كي لا تتعمّق النكبة إلى دركٍ يُطيح بكل الجهود للصمود في وجه آلة القتل الإسرائيليّة، التّي وبالمناسبة وبالرغم من كل بطشها بقي السكّان في بيت لاهيا وجباليا صامدين بوجهها، مؤكدًا أن تجربة اللّجوء التّي تحمل في مكنونها المزيج القاسي من الضعّة والانهزام وانتفاء اليقين والأفق والانتماء، أنها تجربة بنيويّة وموغلة في عمق الهويّة الفلسطينيّة الذي يرتضي حملتها الموت ولا معايشتها، ليمازح أبو ستّة الحضور بالقول أن الله كان غاضبًا من الإسرائيليين فأرسل لهم الفلسطينيين.

صندوق غسان أبو ستّة
وقبل الانطلاق إلى أسئلة نهايّة المحاضرة، تمّ الإعلان عن المبادرة التّي أطلقها البروفيسور أبو ستّة، لجمع التبرعات لأطفال غزّة بعيدًا عن زيف الكاميرات وإحسان الذي أسماهم بالمارقين، وهي لست مبادرة وحسب، بل محاولة للتذكير بوحدة الدمّ والضمير وللتضامن مع القضيّة، والفكرة فحواها أن بيروت قادرة على تضميد جراح أطفال غزّة.

أما وفي الختام ولدى سؤاله عن مصدر الإيمان الذي يدفع الفلسطينيين لبذل لحمهم الحيّ ودمائهم وممتلكاتهم وأرواحهم، قال أبو ستّة ما بحرفيته "شعبنا مدرسة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها